الرجل الذكي

شاهد الأشياء المذهلة

قصيدة ابلغ عزيزا للمتنبي

 

من القصائد المشهورة للمتنبي قصيدة ( ابلغ عزيزاً ) 

أبلِغ عَزيزاً في ثنايا القلبِ مَنزله

أني وأن كُنتُ لا ألقاهُ ألقاءُ

وإن طرفي موصولٌ برؤيتهِ

وإن تباعد عَن سُكناي سُكناهُ

يا ليته يعلمُ أني لستُ أذكرهُ

وكيف أذكرهُ إذ لستُ أنساهُ

يامَن توهم أني لستُ أذكره

واللهُ يعلم أني لستُ أنساهُ

إن غابَ عني فالروح مَسكنهُ

 

كيف تطورت اللغة العربية

مدخل :

لقد اختلف العلماء في تعريف اللغة ومفهومها ، وليس هناك اتفاق شامل على مفهوم محدد للغة ويرجع سبب كثرة التعريفات وتعددها إلى ارتباط اللغة بكثير من العلوم .

ويعد تعريف اللغة عند لبن جني المتوفي 391هـ من العريفات الدقيقة إلى حد بعيد .قال ابن جني : ( حد اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم )[1]. فقد أكد ابن جني في هذا التعريف الطبيعة الصوتية للغة ، كما ذكر وظيفتها الاجتماعية في التعبير ونقل الفكر ، وذكر أيضاً أنها تستخدم في مجتمع محدد فلكل قوم لغتهم .

ومن هذا التحليل يتضح بعد آخر للغة في حياة المجتمع والحضارات. فاللفظ المستخدم ليس تجريدا للفكرة التي يعبر عنها فقط. بل إنه يحمل معه تاريخ هذه الفكرة أيضا ومعها الكثير من الأسماء والمعارك والتضحيات والتجارب والذكريات السعيدة والحزينة. وإنه كلما زاد التراكم التاريخي والإنساني وراء اللفظ زاد ارتباط الإنسان به وفضله على غيره من الألفاظ المستحدثة. وهذا ما يجعل الأقوام والمجتمعات متمسكة بأصول لغتها وملتزمة بقواعدها ومعجمها اللغوي وتسعى إلى تطويرها كلما تطورت نواحي الحياة دون أن تخرج على قواعدها وأصولها بل تجعل التطورات متماشية مع تلك القواعد والأصول.

واللغة العربية قد نشأت في بلاد الحجاز ثم انتشرت في كثير من جوانبها ، وزاد من قوتها وانتشارها نزول القرآن الكريم بها . فكيف ولدت ؟ومتى .. ؟ وما أهم مراحل تطورها ؟ وما التحديات التي تواجهها في عصرنا الحالي؟

تساؤلات سنحاول الإجابة عنها في هذا البحث والذي قسمناها إلى مبحثين :

المبحث الأول : وخصصناه للبحث حول نشأة اللغة العربية وتطورها قديما . أما المبحث الثاني :  فقد خصصناه للبحث حول مساهمة القرآن في تطور اللغة العربية ومحطات تطورها منذ ظهور الإسلام حتى اليوم.

المبحث الأول : نشأة اللغة العربية وتطورها قبل الإسلام

اللغة العربية هي واحدة من اللغات السامية التي خرجت من أرضٍ واحدة ، وبما أن الساميون قد تكاثرت أعدادهم فقد خرجوا من مهدهم الأول فاختلفت لهجاتهم عن اللغة الأولى ، وزاد من هذ الاختلاف انقطاع الصلة وتأثير البيئة وتراخي الزمن حتى أصبحت كل لهجة لغةً مستقلةً .

والعلماء يقسمون اللغات السامية إلى الآرامية والكنعانية والعربية ، كما يقسمون اللغات الآرية إلى اللاتينية واليونانية والسنسكريتية .

فالآرامية أصل الكلدانية والآشورية والسريانية ، أما الكنعانية فهي مصدر العربية والفينيقية ، والعربية تشمل المضرية الفصحى ولهجات أهل اليمن والحبشة ، والراجح في الرأي أن العربية هي أقرب المصادر الثلاثة إلى اللغة الأم ، لأنها بانعزالها عن العالم سلمت مما أصاب غيرها من التطورات والتغيير[2] .

 

ألسنة العرب هل تشكلت منها اللغة الفصحى ؟

 

ألسنة العرب : تعبير أطلق قديما قصد به اختلاف ألسنة القبائل ، وتباينها في نطق بعض الألفاظ .ويدخل في هذا النوع الاختلاف في حركات الفتح والإمالة ، والإظهار والإدغام ، والتسهيل والتحقيق ، والتفخيم والترقيق . أو ما يعرف باختلاف اللهجات . حيث كان للعربية قبل الإسلام أكثر من مستوى وظيفي . فقد كانت هناك اللغة المشتركة ، وهي لغة الشعر والخطابة والحوار في دار الندوة ، والمفاخرات التي تُعقد في أسواق العرب ، وهناك لغات القبائل التي تتفاوت فصاحتها بمدى قربها من اللغة المشتركة والتي عُرفت بمسميات مختلفة تعبر عن سمات التغيّر الصوتي فيها ، ومن ذلك[3] :

-       تلتلة بهراء : وهي كسر حروف المضارعة ، مثلاً :الفعل  يَعلم ينطق يِعلم بكسر الياء .

-       الكشكشة والكسكسة : وتنسب إلى ربيعة ومضر وبكر ، وهي قلب الكاف المؤنثة شينا أو سينا كتابك ينطق كتابش أو كتابس .

-       شنشنة اليمن : وهي إبدال الكاف شيناً مطلقاً : في لبيك اللهم لبيك : لبيش اللهم لبيش .

-       طمطمانية حِمير : وهي قلب ال التعريف أم ، وبها يُرى الحديث الشريف ( ليس من البر الصيام في السفر) وينطق هكذا : ( ليس من امبر امصيام في امسفر )

-       عجعجة قضاعة : وهي قلب الياء المشددة جيماً فالعشيّ تنطق العشج .

-       استنطاء هذيل :وهي قلب العين نوناً بشرط مجاورتها للطاء . إنا أعطيناك ، تنطق : أنطيناك.

-       فحفة هذيل : وهي نطق حتى عتى : عتى حين .

وهذه اللغات كما أشرنا سابقا هي لغات خاصة بالقبائل بيمنا كانت اللغة المشتركة بينهم هي اللغة الفصحى لغة الشعر والأدب والندوات التي تغلبت على سائر اللغات لأسباب دينية واقتصادية واجتماعية ولعل من أهمها :

Ø    الأسواق : وكان العرب يقيمونها في أشهر السنة للبيع والتسوق ، وينتقلون من بعضها إلى بعض وهذا يجعلهم وفقا لطبيعة الاجتماع إلى المقارضة بالقول والمفاوضة في الرأي ، والمبارزة بالشعر ، والمباهاة بالفصاحة والمفاخرة بالمحامد وشرف الأنساب ، فساعد ذلك كله القبائل العربية على توحيد اللسان والعادات والتقاليد والأخلاق .فقد كان الشاعر أو الخطيب يحرص على انتقاء الألفاظ العامة والأساليب الشاعة في الأدب رغبة في إفهام سامعيه ، وطمعا في تكثير جمهوره حينئذ يقوم الرواة بتلقي تلك الأشعار أو الخطب ونشرها في الأنحاء ، فتنتشر معها اللغة فضلا عن الطريقة والفكرة . [4]وأشهر تلك الأسواق هو سوق عكاظ ( وهي قرية بين نخلة والطائف واتخذت سوقا سنة 540م ) ومجنة وذو المجاز ، وعكاظ هو أشهر و أقوى الأسواق أثراً في تهذيب اللغة العربية ، ولعل سر قوته يكمن في أنه كان يقام في بداية ذي القعدة ويستمر إلى العشرين منه ، فتفد إليه زعماء العرب وأمراء الشعر والأدب من كل فج عميق للمتاجرة ومفاداة الأسرى وأداء الحج.[5]

Ø   أثر مكة وعمل قريش في وحدة اللغة وتطورها :

في القرن السادس أصبحت مكة محطة التقاء القبائل العربية الآتية من الجنوب القادمة بأنواع السلع والتوابل من بلاد الهند حيث كان المكيون يبتاعونها ويصفونها في أسواق الشام ومصر وكانت قوافل مكة التجارية آمنة لحرمة البيت الحرام ومكانة قريش وزعامتهم في الحج ورياستهم في عكاظ ، و إيلافهم رحلة الشتاء إلى اليمن ورحلة الصيف إلى حوران فكانوا أشد الناس ارتباطاً بالقبائل وأكثرهم اختلاطاً بالشعوب العربية ، فضلا عن اختلاطهم بالحبشة في الجنوب وبالفرس في الشرق وبالروم في الشمال. فتهيأت لهم بذلك سبل ثقافة اللسان والفكر فسقلوا لغتهم وجعلوها من أفصح اللغات ، ثم أخذ الشعراء يثرونها وينشرونها، حتى نزل بها القرآن الكريم فأتم لها الذيوع والغلبة[6]. ويذهب علماء اللغة إلى أن لهجات غرب الجزيرة العربية ووسطها تقاربت حتى صارت في أصفى صورها عند قبائل نجد وبطون غطفان وتميم ، حتى أن آمنة بنت وهب أم النبي محمد صلى الله عليه وسلم اختارت أن تبعث به رضيعاً إلى منازل سعد بن بكر وهم من هوازن حتى تتعود أذنه النطق السليم [7].

ويقول ابن خلدون في المقدمة ( ... ولهذا كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية ، و أصرحها لبعدهم عن بلاد العجم من جميع اتجاهاتهم ، ثم مَن اكتنفهم من ثقيف وهُذيل وخُزاعة ، وبني كنانة وغطفان وبني أسد وبني تميم.

وأما من بَعُد عنهم من ربيعة ولخم وجُذام وغسان وإياد وقضاعة وعرب اليمن المجاورين لأمم فارس والروم والحبشة فلم تكن لغتهم تامة الملكة لمخاطتهم الأعاجم[8].)

وبهذا يتضح لنا أن قريش ومن جاورها من القبائل قد ساهمت في تكوين اللغة العربية الفصحى وتطورها وجعلها لغة عامة تغلبت على لهجات وألسن القبائل العربية ، وقد كان لعمل قريش في التجارة فضلاً عن موقعها البعيد عن الأعاجم وإقامتها للأسواق التي ساهمت هي أيضا في سقل الألفاظ العربية وتهذيبها وتصفيتها ونشرها .

المبحث الثاني : اللغة العربية من بعد ظهور الإسلام إلى العصر الحديث.

v   اللغة العربية بعد نزول القرآن الكريم

كان نزول القرآن الكريم بالعربية الفصحى أهم حدث في مراحل تطورها ؛ فقد وحد لهجاتها المختلفة في لغة فصيحة واحدة قائمة في الأساس على لهجة قريش ، وأضاف إلى معجمها ألفاظاً كثيرة وأعطى لألفاظ أخرى دلالات جديدة . كما ارتقى ببلاغة التراكيب العربية . وكان سبباً في نشأة علوم اللغة العربية كالنحو الصرف والأصوات وفقه اللغة والبلاغة ، فضلاً عن العلوم الشرعية ، ثم إنه حقق للعربية انتشاراً عالمياً .

وحملت اللغة الفصيحة القرآن الكريم ، واستطاعت من خلال انتشار الإسلام أن تبدأ زحفها جنوباً لتحل محل العربية الجنوبية القديمة ، ثم عبرت البحر الأحمر إلى شرق إفريقيا ، واتجهت شمالاً فقضت على الآرمية في فلسطين وسوريا والعراق، ثم زحفت غرباً فحلت محل القبطية في مصر ،وانتشرت في شمال إفريقيا فخلفت لهجات البربر ، وفتحت لها الطريق إلى غرب إفريقيا والسودان ، ومن شمال إفريقيا انتقلت إلى أسبانيا وجزر البحر المتوسط[9] .

v   ظهور علوم اللغة العربية وقواعدها .

عندما خطت اللغة العربية خطواتها الأولى نحو العالمية ، وانتشرت في الأمصار أصبحت حينها اللغة الرسمية للدولة وأصبح استخدامها دليلاً على الرُقي والمكانة الاجتماعية ، وظلت لغة البادية حتى نهاية القرن الثاني الهجري هي الحجة عند كل اختلاف ، أما سكان الأمصار الإسلامية فقد بدأت صلتهم بها تضعف شيئاً فشيئاً، وأخذ بعضم يتكلم عربية مولدة متأثرة بلغته الأم ، فكان هذا أحد أسباب التي جعلت العربية تدخل مجال التأليف العلمي في نهاية العصر الأموي بعد أن كان ثراؤها مقتصراً على شعر وأمثال على ألسنة الرواة[10].

أما بداياتُ النحوِ العربي فغامضةٌ بعضَ الشيءِ ولسنا في معرضِ ذكرِ الآراءِ المختلفةِ، والراجحُ أنَّ أبا الأسود الدؤليِّ أولُ من تكلمَ بالنحوِ، ولكن الثابتَ يقيناً أنَّ الانطلاقةَ الحقيقةَ للنحو العربي كانت على يد ابن أبي إسحاق الحضرمي (735) ثم تبِعهُ الخليل بن أحمد حتى جاء سيبويه وبدأ عصراً جديداً من الدرس النحوي قائماً على التدوينِ والتأليفِ فكان "الكتابُ" أولَ ما دوِّنَ من أصولِ النحو، ثم تعددت الآراءُ والمدارسُ في النحو والصرف خاصةً في العراقِ الذي عرفَ مدرستي الكوفة والبصرة، وما بينهما من منافسةٍ شديدة لم تقتصرِ على النحو فحسب بل شملتِ عموم علوم اللغة وعلم الكلام.

كما كان لصناعة المعاجمِ ،على أشكالها، أثرٌ بارزٌ على اللغة العربية وتنظيمها، ما جعلها قادرةً على احتواءِ الإرثِ الكبير المدوّنِ بالعربيةِ أو المترجمِ عن اللغاتِ الأخرى. ويجمعُ الباحثون على أن الخليل بن أحمد الفراهيدي هو أولُ من وضعَ مُعجماً في اللغة العربية، وهو «كتاب العينِ»، وقد رتّب َمادتهُ بحسب مخارجِ الحروف ابتداءً من حرف العين. وعلى خطا الخليل ظهرت معاجمٌ عربيةٌ كثيرة ومتنوعة في مادتِها وأسلوبها نذكرُ أشهَرها من معاجم الألفاظ: «الحروف» و«الجيم» للشيباني، و«الجمهرة» لابن دريد، و«المحيط» للصاحب بن عباد، و«الصحاح» للجوهري، و«القاموس المحيط» للفيروز أبادي، و«لسان العرب» لابن منظور. ومن معاجم المعاني: «فقه اللغة وسر العربية» لأبي منصور الثعالبي، و «المُخصَّص» لابن سيده.

وشهدَ العصرُ العباسي نهضةً ثقافيةً كُبرى تمثّلت بتعدد المدارس الفلسفية والكلامية إضافةً إلى التأليفِ والترجمةِ والنقل من اللغات الأخرى وهذا بدوره أدّى إلى إغناءِ اللغة العربية والارتقاء بأساليبها ومفرداتها من خلال استيعاب مفردات ومعاني جديدة.

v   عصور الانحطاط ...وعصر النهضة ، وهل أثرت النهضة العربية الحديثة في تطور اللغة العربية؟

من خلال السطور السابقة تبين لنا أن اللغة العربية قد شهدت تطورا كبيرا وحظيت باهتمام كبير نتج عنه تأليف الكتب وجمع المعاجم اللغوية وتعليم قواعد اللغة وآدابها.

فما إن نصل إلى عصرِ الدول المتتابعة ومن ثم فترةِ الحكم العثماني حتى تبدأ اللغة العربية حالةً أشبه بالجمود نتيجة الركود الثقافي والاجتماعي في تلك العصور فتراجعت مكانةُ اللغةِ العربية أمام سلطانِ اللغة التركية واللغات المحلية الأخرى.

واستمرت الحالُ على ما هي عليه حتى بدأت بوادرُ النهضةِ العربيةِ بالظهور في نهايات القرن التاسع عشر فشهِدت اللغة العربية انتعاشاً على يدِ المفكرين والمتنورين من أدباءِ النهضةِ ورجالاتِها، وكان لاستيقاظِ الشعورِ الوطني والقومي دورهُ في بعثِ اللغة العربية ثم جاءت الصحافة لتحررَ اللغةَ العربية مما علقَ بها من رواسبِ عصورٍ من الانحطاط والتخلف فعمل الكتّابُ على تجديد أساليبهم بما يتناسب وروحَ العصر ونشطت حركةُ التأليف لتؤكدَ على الحلّةِ الجديدة للغةِ العربيةِ.

ثم جاءت المجامعُ اللغوية تعزيزاً ودعماً للغة العربية ومساهمةً كبرى في حركةِ التعريب والترجمة فكان مَجمعُ اللغة العربية بدمشقَ أولُ هذه المجامع ظهوراً وقد أُنشئ أولاً في العهد الملكي عام 1919 تحت مسمى "المجمع العلمي العربي" وتولى رئاسته محمد كرد علي وكان من أشهر أعضائه أمين سويد وأنيس سلوم وسعيد الكرمي ومتري قندلفت وعيسى إسكندر معلوف وعبد القادر المغربي وعز الدين علم الدين وطاهر الجزائري. كان له دورٌ كبيرٌ في تعريبِ مؤسسات الدولة وهيئاتها وتعريب التعليم وإنشاء المدارس الأولى في سورية. وجمعَ الآثارِ القديمة، وجمع الكتبِ المخطوطةِ والمطبوعة وتوسّعَ عددُ أعضاء مجمع اللغة العربية بعد ذلك إلى عشرين عضواً عاملاً في سوريا. وتوالى على رئاسته الأساتذة: محمد كرد على (حتى 1953)، خليل مردم بك (حتى 1959)، مصطفى الشهابي (حتى 1968)، حسني سبح (حتى 1986)، وشاكر الفحام.

ثم كان تأسيسُ المَجمع في بيروت عام 1920 برئاسة عبد الله ميخائيل البستاني وكان من أعضائه إسكندر معلوف والشيخ مصطفى الغلاييني وبشارة الخوري ولكن المجمع أُلغي بداعي توفيرِ النفقاتِ[11].

وفي عام 1932 صدرَ مرسومٌ ملكيٌ في مصرَ يقضي بإنشاء مجمع اللغة العربية في القاهرة وضم عدداً من المختصين في اللغة العربية من العرب والمستشرقين.

أمّا المجمعُ العلميُ العراقيُ فتأسّسَ عام 1947 برئاسةِ محمد علي الشبيبي. ومن ثم اجتمعت المجامعُ اللغويةُ العربيةُ في اتحادٍ واحٍد تأسّس عام 1971 بهدفِ تنظيمِ عملِ المجامع والتنسيق فيما بينها والعملِ على توحيدِ المصطلحات العلمية والفنية والحضارية ونشرِها[12].

وتحتلُ اللغةُ العربية اليومَ المرتبةَ الخامسةَ من بين اللغاتِ واسعة الانتشار في العالمِ إذ ينطقُ بها ما يزيد على 350 مليون شخص حول العالم، وهذا ما دفعَ منظمةَ الأمم المتحدة إلى إعلانِ العربية لغةً رسميةً في الأمم المتحدة وأصبحت من لغات العملِ في مختلف الهيئات والمنظمات التابعة لها كما عيّنت يوم الثامن عشر من كانون الأول/ ديسمبر كل عام يوماً للاحتفالِ باللغةِ العربيةِ.

الخاتمة :

يتضح لنا مما سبق نشأة اللغة العربية وكيف تطورت من ألسنة العرب ومزجت بين ألفاظها وتكونت من ألفاظ نقية اعتمدت كلغة عامة للأدب والشعر في العصر الجاهلي، وهي لغة سامية شهدت تطورا كبيراً في مراحلها الداخلية ، وكان للقرآن الكريم فضل عظيم عليها حيث بسببه أصبحت هذه اللغة الفرع الوحيد من اللغات السامية الذي حافظ على توهجه وعالميته ، في حين اندثرت معظم اللغات السامية ، ما بقى منها عدا لغات محلية ذات نطاق ضيق مثل : العبرية والأمهرية ، واللغة العربية شهدت مراحل قوة ومراحل ضعف كان لسيطرة غير العرب على مقاليد الحكم أثراً كبيرا في إضعافها، إلا أنها ما لبثت أن عادت للحياة من جديد بفضل النهضة الثقافية العربية وقيام المجامع اللغوية وظهور حركة الإحياء والتأليف.

واللغة العربية يتكلم بها الآن قرابة 422 مليون نسمة كلغة أم ، كما يتحدث بها من المسلمين غير العرب قرابة العدد نفسه كلغة ثانية.

إلا أن اللغة العربية تواجه تحديات كثيرة من أبرزها عدم اهتمام أهلها بها وبدراستها وعدم إيمانهم بثرائها اللغوي .

قائمة المصادر والمراجع :

قائمة المصادر :

1.    القرآن الكريم .

2.    موسوعة الحديث النبوي الشريق ( الصحاح والسنن والمسانيد ) الإصدار الثاني ، انتاج موقع روح الإسلام

3.    بن جني ، أبو الفتح عثمان ، الخصائص ، ج 1 ، تحقيق محمد علي النجار ، المكتبة العلمية .

4.    ابن خلدون ، عبدالرحمن ، المقدمة ، المجلد الأول ط 2 ( دار الكتاب اللبناني ، بيروت ، 1979.

قائمة المراجع :

1)    الزيات ، أحمد حسن ، تاريخ الأدب العربي ، ط 24 ، ( دار المعرفة بيروت )

2)    حجازي ، محمود فهمي ، علم اللغة العربية ، المكتبة الشاملة ، نسخة الكترونية .

3)    الموسوعة العربية العالمية ، النسخة الألكترونية 2004 م



[1] الخصائص لابن جني المجلد الأول

[2] أحمد حسن الزيات ، تاريخ الأدب العربي ، ط 24، ( دار المعرفة بيروت ) ، ص 13

[3] الموسوعة العربية الشاملة 2004 م

[4] أحمد حسن الزيات ( بتصرف ) ، مرجع سابق

[5] الموسوعة الشاملة ، مرجع سابق .

[6] أحمد حسن الزيات ، مرجع سابق ص 15 ، 16، 17

[7] الموسوعة الشاملة ، مرجع سابق

[8] عبد الرحمن بن خلدون ، المقدمة ، المجلد الأول ، طـ2 ( دار الكتاب اللبناني ، بيروت 1979 ، ص 1072

[9] الموسوعة الشاملة ، مرجع سابق.

[10] الموسوعة العربية العالمية.

[11] إسرائيل ولينسفون : تاريخ اللغات السامية .

[12] سعيد الأفغاني : في أصول النحو 

الأساليب الخبرية والإنشائية


  الأسلوب الخبري :


وهو ما يحتمل الصدق والكذب ويستثنى من هذا :


    القرآن الكريم  -  الحديث  -  الحقائق العلمية


- الأسلوب الخبري أغراضه البلاغية كثيرة تأتي حسب المعنى


 الذي يوحي به سياق الكلام ، ومنها : (الاسترحام  -  إظهار


 التحسر  -  إظهار الضعف  -  الفخر  -  النصح  -  التهديد  - 


 التوبيخ  -  المدح ... إلخ ) 


و منها : 


1  -  الاسترحام، نحو: (إلهي عبدك العاصي أتاكا..).


2  -  إغراء المخاطب بشيء، نحو: (وليس سواء عالم وجهول).


3  -  إظهار الضعف والخشوع، كقوله تعالى : ( قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) (مريم: من الآية4) .


4  -  إظهار التحسر على شيء محبوب، كقوله تعالى :


 ( قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى ) (آل عمران: من الآية36)


5  -  إظهار الفرح، كقوله تعالى (جاء الحق..) .


6  -  التوبيخ، كقولك: (أنا أعلم فيم أنت!).


7  -  التحذير، نحو (أبغض الحلال الطلاق) .


8  -  الفخر، نحو: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) . 


9  -  المدح، نحو: (فإنك شمس والملوك كواكب..).


**********


  الأسلوب الإنشائي : 


وهو ما لا يحتمل الصدق أو الكذب وهو نوعان :


 -  طلبي: وهو الأمر والنهى والاستفهام والنداء والتمني.


 -  غير طلبي: وهو التعجب والقسم والمدح والذم.

  تذكر أن :


كل أغراض الأساليب الإنشائية تأتي حسب المعنى الذي


 يوحي به سياق الكلام ، وما يذكر هنا من أغراض على 


سبيل المثال لا الحصر .


1 -  الأمــر : 

هو طلب فعل الشيء على وجه الاستعلاء


(أي الآمر يعد نفسه أعلى من المخاطب ) .

و صيغ الأمر :


(أ ) -  الفعل الأمر مثل : " ربنا اغفر لنا ذنوبناً ".


(ب) -   المضارع المقرون بلام الأمر  مثل : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه".


(ج) -  المصدر النائب عن فعله مثل : " وبالوالدين إحسانا ".


(د)  -  اسم الفعل  مثل : " عليك بتقوى الله ".


  أغراضه البلاغية : 


تفهم من سياق الكلام وهي كثيرة مثل :


    [الدعاء  -  التهديد  -  النصح والإرشاد  -  التعجيز  -  الذم والتحقير  -  التحسر  -  التمني] و منها :


1 - الدعاء : إذا كان الأمر من البشر إلى الله .

  مثل : قول سيدنا موسى : (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) (طـه25 : 26).


2 - الرجاء : إذا كان الأمر من الأدنى إلى الأعلى من البشر .

  مثل : انظر إلى شعبك أيها الحاكم . 


3 - النصح والإرشاد : إذا كان الأمر من الأعلى إلى الأدنى من البشر ، أو كان فيه فائدة ستعود على المخاطب .

  مثل :


   اطلبوا الحكمة عند الحكماء . 

    (دع ما يؤلمك ).

   اِرْجِعْ إلَى النفْـسِ فاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَـا فأنْتَ بِـالنَّـفْـسِ لاَ بِالجِـسْـمِ إِنْسَـانُ


4 - الالتماس : إذا كان الأمر بين اثنين متساويين في المكانة .

  مثل : يا صاحبي تقصيا نظريكما .


5 - التعجيز : إذا كان الأمر يستحيل القيام به ؛ لأن المأمور يعجز أن ينفذ ما أمر به .

{مثل : (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِه) (لقمان: من الآية11).


 (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن


 مِثْلِهِ ) (البقرة: من الآية23).


6 - التمني :

 إذا كان الأمر موجهاً لما لا يعقل ، أو للمطالبة بشيء بعيد التحقق .


مثل : 

ألا أيها الليل الطويل ألا أنجلِ 

بصبح وما الإصباح منك بأمثل 

7 - التحسُّر و الندم : 

إذا كان الأمر يتضمن ما يحزن النفس و يؤلمها على شيء مضى و انتهى .


مثل : قال البارودي :


 رُدُّوا عَلَيَّ الصِّبَا مَنْ عَصْرِيَ الخَالِي  .


8  - التهديد و التحذير : 


إذا كان الكلام يتضمن ما يخيف و يرهب .


مثل : أهْمِلْ دروسك ، وسترى عاقبة ذلك .


*********


2- النهــي :

ويأتي على صورة واحدة وهى المضارع المسبوق بـ [لا] الناهية.

{و النهي الحقيقي هو طلب الكف من أعلى لأدنى .

{وقد تخرج صيغة النهي عن معناها الحقيقي إلى معانٍ أخرى بلاغية كالدعاء ، والالتماس ، والتمني ، والإرشاد ، والتوبيخ ، والتيئيس ، والتهديد ...


  تذكر أن :


الأغراض البلاغية لأسلوب النهي هي نفس الأغراض البلاغية للأمر 

1  -  الدعاء : 

(رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (البقرة: من الآية286) 


2  -  التهديد :

 قال الأبُ متوعداً ابنه : لا تُقْلِعْ عَنْ عِنَادِك !


3  -  التمني :

 لا تغربي يا شمس !


4  -  النصح والإرشاد : 

قال خالد بن صفوان:  (لا تطلبوا الحاجات في غير حينها، ولا تطلبوها من غير أهلها).


5  -  التيئيس : 

(لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) (التوبة: من الآية66).


6  -  التحسر والندم : (لا تأملي يا نفس في الدنيا ، فما فيها من وفاء ) .


3 -  الاستفهـام : 

الاستفهـام الحقيقي : هو طلب معرفة شيء مجهول ويحتاج إلى جواب .


الاستفهـام البلاغي : لا يتطلب جواباً و إنما يحمل من المشاعر أغراض بلاغية عديدة منها :


1  -


النفي : إذا حلت أداة النفي محل أداة الاستفهام و صح المعنى :

مثل : 

(هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُون) (الزمر: من الآية9) .


2  -  التقرير و التأكيد : إذا كان الاستفهام منفياً :


 مثل : ألم نشرح لك صدرك.


{ (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا) (الأعراف: من الآية172).


3  -  الإنكار : إذا كان الاستفهام عن شيء لا يصح أن يكون :

مثل : (أتلعب و أنت تأكل .) ،  (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ..) (البقرة:44) .


4  -  التمني : إذا إذا قدرت مكان أداة الاستفهام أداة التمني (ليت) ، واستقام المعنى .

مثل : ( فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا ) (الأعراف:53).


5  -  التشويق و الإغراء : إذا كان الكلام فيه ما يغري و يثير الانتباه . 

مثل : ( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (الصف: من الآية10).


4 -  النــداء : 

وأدواته هي : الهمزة و(أي)، وينادي بهما القريب، و(وا) و(أيا)، و(هيا) وينادى بها البعيد، و(يا) لنداء القريب والبعيد .

أغراض النداء البلاغية عديدة ومنها :


1  -  إظهار التحسُّر والحزن : 

{مثل :  قول الشاعر يرثي ابنته : يا درة نزعت من تاج والدها .


2  -  التعجب :

مثل : قال أبو العلاء المعري: فَوَاعَجَبًا كَمْ يَدِّعِي الفَضْلَ نَاقِصٌ


3  -  الاستبعاد : إذا كان المنادى بعيد المنال .

مثل : يا بلاداً حجبت منذ الأزل .


4  -  الاستغاثة : 

مثل : يا الله للمؤمنين . 


5  -  التعظيم : 

مثل : يا فتية الوطن المسلوب هل أمل على جباهكم السمراء يكتمل 


6  -  التنبيه : 

مثل : يا صاحبي تقصيا نظريكما .


5 -  التمنــي :

أداته الأصلية (ليت) وقد تستعمل في التمني أدوات أخرى هي (لو / هل / عسى).


{لو : تفيد إظهار التمني بعيد نادر الحدوث 

مثل : لو كان ذلك يشترى أو يرجع .


{هل ، لعل : لإظهار التمني قريب الحدوث .

مثل : لعل الكرب ينتهي . 


ليت : تفيد استحالة حدوث الشيء 

مثل : ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب.


 تذكر أن :

هناك أسلوب آخر هو : الأسلوب الخبري لفظاً الإنشائي معنى ، ودائماً يفيد : الدعاء


مثل : (جزاك الله خيراً).

أبوالطيب المتنبي شاعراً*

  الدكتور : عبدالعزيز المقالح 

لا يعتريني أدنى شك في أن عنوان هذه التأملات سوف يثير مجموعة من أسئلة القراء المتابعين للشعر، وأن أول أسئلتهم سيكون: وما الجديد في حديث كهذا؛ فالمتنبي ليس شاعراً فحسب، بل هو أهم شعراء العرب على الإطلاق؟ وأنا أتفق معهم وأقول لا خلاف على مكانة المتنبي، لكن ما كتبه من شعر يتوزع بين الحكمة والنظم والشعر، فالعنوان إذاً يحاول لفت انتباه القراء إلى أن هذا البحث الموجز، الذي يشير العنوان إلى محتواه سيتناول هذا الجانب الأخير، وهو الشعر الذي يعطي للمتني صفه الشاعر لا صفة الحكيم أو الناظم المنطقي. وآمل أن أكون في هذه الإشارة التمهيدية قد تمكنت من توضيح حقيقة العنوان ودلالته، التي بدت غامضة بعض الشيء، وإذا كان شعر هذا المستوى عند المتنبي قليلاً فإنه عند الشعراء الآخرين يبدو أقل من القليل.

ولا أنسى هنا الإشارة إلى أن ما دفعني إلى الاقتراب من هذا المنحى الشائك، هو تلك العبارة التي سادت في عصره وتواصل صداها إلى ما تلاه من عصور، وهي (أبو تمام والمتنبي حكيمان وإنما الشاعر البحتري)، وهي عبارة قطعية تسلب الشاعرين الكبيرين كل علاقة لهما بالشعر بمعناه الخاص والدقيق، ولا تعطي أدنى اهتمام لتلك اللوحات الشعرية البديعة التي تتخلل قصائدهما الطويلة وما تحمله من نبض الشعر / الشعر، ومنها على سبيل المثال تلك الأبيات التي جاءت في سياق الحديث عن البطولة والحرب في القصيد ة المشهورة لأبي تمام (السيف أصدق إنباء) والأبيات هي:

لقد تركت أمير المؤمنين بها

للنار يوماً ذليل الصخر والخشبِ

غادرت فيها بهيم الليل وهو ضحى

يشلّه وسطها صبح من اللهبِ

حتى كأن جلابيبَ الدُّجى رغبت

عن لونها، وكأن الشمس لم تغبِ

ضوء من النار والظلماء عاكفةٌ

وظلمةٌ من دخانٍ في ضحىً شَحِبِ 

هكذا إذاً، هو الشعر /الشعر/ أو الشعر / الماس المتناثر بين سطور القصائد الطويلة والقصيرة للشعراء الكبار. وهو عند المتنبي أظهر وأكثر، وسنبدأ معه من قصيدته (النونية) تلك التي استوحى مقدمتها من (شِعب بوّان) في بلاد فارس، وكيف سار به في مناخ من الدهشة والافتنان بالطبيعة في واحدة من صورها الأعذب والأجمل، وبما تعكسه من الأضواء والظلال، وما كان ذلك الشِعب أو الوادي الظليل ليستأثر بإعجابه لو لم يكن من القدرة الجمالية بمكان، ولما انعكس أثره في هذا التعبير الشعري الباذخ غير المسبوق في تاريخ الأدب العربي والشعر منه خاصة، حيث تتحول الصورة إلى لوحات فنية تضاهي ما يرسمه المصورون الكبار عن الحدائق والغابات:

مغاني الشِّعب طيباً في المغاني 

بمنزلةِ الربيع من الزمانِ

ولكن الفتى العربيَّ فيها 

غريب الوجه واليد واللسانِ

ملاعب جِنّةٍ لو سار فيها 

سليمانٌ لسار بترجمانِ

فسرتُ وقد حجبن الحر عني

وجئن من الضياء بما كفاني

وألقى الشرقُ منها في ثيابي 

دنانيراً تفرّ من البنانِ

لها ثمر تشير إليك منه

بأشربةٍ وَقَفن بلا أوانِ

وأمواه ٌ تصلّ بها حصاها 

صليلَ الحلي في أيدي الغواني

في هذا المقطع، يبدو المتنبي فناناً تشكيلياً يرسم لوحاته الشعرية، أو بالأصح مجموعة لوحات متعددة الألوان، بكلمات تأسر المشهد الطبيعي لتتناقله الأجيال عبر العصور، وفيه نصغي إلى موسيقا المياه وإلى النسمات التي تحرك أوراق الشجر بحنان، وهذا هو الشعر الذي يتداخل بين الصامت والناطق والضوء بالظلال، وهنا يشعر القارئ المتمرس بقراءة الشعر وإدراك مستوياته اللونية والصوتية، بأن المتنبي كان وهو يكتب هذا المقطع في أقصى درجات العفوية بعيداً عن التصنع والكد الذهني، وكأنه يلتقط صوره ومعانيه من فضاء المكان، فكانت تأتي إليه سهلة دون جهد يبذل أو عناء، وهي حالة لا يدركها إلاَّ الكبار من الشعراء الذين تتملكهم طاقة تعبيرية تتجاوز الوعي إلى اللّا وعي، والواقع إلى ما هو أبعد من الخيال.

ومما تناقله النقاد عن ابن رشد، اختياره لأربعة أبيات من قصيدتين لاميتين، بوصفها أجمل ما كتب المتنبي من شعر، والأبيات المختارة تؤكد بوضوح فهم هذا المفكر والفيلسوف للشعر، وأن نقده العالي يثبت اتساع دائرة وعيه الأدبي والمعرفي، والبيتان الأولان هما من قصيدة كان المتنبي يتحدث فيها عن رسول ملك الروم إلى سيف الدولة، وكيف كانت حيرته وهو يبارح أرضه، التي كانت لاتزال تعاني غبار المعارك وآثار الدماء التي سالت فيها، والحديث موجهٌ إلى سيف الدولة:

وأنَّى اهتدى هذا الرسول بأرضه 

وما سَكَنت مذ سِرت فيها القساطلُ

ومن أيّ ماءٍ كان يسقي جياده

ولم تصفُ من مزج الدماء المناهلُ

أما البيتان الآخران فهما من قصيدة لامية أخرى، يمدح بها المتنبي ابن رائق المتقي وهو أحد خلفاء العباسيين المعاصرين له، والبيتان من المقدمة الغزلية وهما:

لَبــِسن الَوشْيَ لا متجملاتٍ 

ولكن كي يَصُنَّ به الجمالا

وضفّرن الغدائرَ لا لحسنٍ 

ولكن خِفن في الشَّعر الضلالا

وفي القصيدة التي اختار ابن رشد منها هذين البيتين، أبيات أخرى تستحق الوقوف عندها، ومنها هذا البيت:

على قلقٍ كأن الريح تحتي 

أوجهها جنوباً أو شمالا

كثيرة هي الأبيات الشعرية التي تناثرت بين سطور قصائد المتنبي وأحياناً في مداخلها، ومنها هذه الأبيات التي جاءت في مدخل إحدى قصائده، ذات الإيقاع الموسيقي الفاتن: 

وكيف التذاذي بالأصائل والضحى 

إذا لم يعد ذاك النسيم الذي هبَّا

ذكرت به وصلاً كأن لم أفز به

وعيشاً كأني كنت أقطعه وثبا

وفتّانة العينين قتالة الهوى

إذا نفحت شيخاً روائحُها شبّا

وربما يكون المتنبي هو الشاعر العربي الوحيد الذي تلين له اللغة، ومثلها القوافي، فتبدو للقارئ وكأنها معدّة سلفاً، أو بعبارة أخرى كأنه لا يكتبها بل يجدها مكتوبة جاهزة، ليتلقاها دون بحث أو عناء، وهي حالة تستدعي دراسة مستقلة.

ونتوقف هنا قليلاً عند لاميته المرفوعة، التي تقطر عذوبةً وتنساب في الأفواه انسياب الجداول في الحقول الظمأى، وفي هذه القصيدة الرائعة يوجد البيت الشعري العظيم، الذي جمع بين الشعر عندما يكون في أبهى تجلياته، وبين الحكمة دائمة الحضور في كثير من الحالات، التي يجد الإنسان نفسه واقفاً بين خصومه، ومن يفترض أنهم أصدقاؤه.

وسوى الروم خلف ظهرك روم

فعلى أي جانبيك تميل

ونتوقف قليلاً عند المقطع المشار إليه، وهو يتوسط القصيدة ويحتل منها مقام القلب في هذه القصيدة، ويبدأ بالسؤال الذاهل المذهل: 

نحن أدرى وقد سألنا بنجدٍ

أَطَويلٌ طريقنا أم يطولُ

وكثيرٌ من السؤال اشتياقٌ 

وكثيرٌ من رده تعليلُ

لا أقمنا على مكانٍ وإن طاب 

ولا يمكن المكان الرحيلُ

كلما رحبت بنا الروض قلنا 

حَلَبٌ قصدنا وأنت السبيلُ

وفي الأخير تجدر الإشارة إلى أن هذا الشاعر العظيم فريدٌ في شخصيته، وفريدٌ في حياته، وفريدٌ في قصائده الموحية، التي اتسعت للمديح وللتعبير عن الذات، كما اتسعت للحكمة ووصف الطبيعة وللشعر في أرقى مستوياته وأعمقها، تمثّلاً لمعنى الشعرية في توصيفها القديم والمعاصر.

* نُشر في مجلة الشارقة الثقافية