الرجل الذكي

شاهد الأشياء المذهلة

كيف تطورت اللغة العربية

مدخل :

لقد اختلف العلماء في تعريف اللغة ومفهومها ، وليس هناك اتفاق شامل على مفهوم محدد للغة ويرجع سبب كثرة التعريفات وتعددها إلى ارتباط اللغة بكثير من العلوم .

ويعد تعريف اللغة عند لبن جني المتوفي 391هـ من العريفات الدقيقة إلى حد بعيد .قال ابن جني : ( حد اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم )[1]. فقد أكد ابن جني في هذا التعريف الطبيعة الصوتية للغة ، كما ذكر وظيفتها الاجتماعية في التعبير ونقل الفكر ، وذكر أيضاً أنها تستخدم في مجتمع محدد فلكل قوم لغتهم .

ومن هذا التحليل يتضح بعد آخر للغة في حياة المجتمع والحضارات. فاللفظ المستخدم ليس تجريدا للفكرة التي يعبر عنها فقط. بل إنه يحمل معه تاريخ هذه الفكرة أيضا ومعها الكثير من الأسماء والمعارك والتضحيات والتجارب والذكريات السعيدة والحزينة. وإنه كلما زاد التراكم التاريخي والإنساني وراء اللفظ زاد ارتباط الإنسان به وفضله على غيره من الألفاظ المستحدثة. وهذا ما يجعل الأقوام والمجتمعات متمسكة بأصول لغتها وملتزمة بقواعدها ومعجمها اللغوي وتسعى إلى تطويرها كلما تطورت نواحي الحياة دون أن تخرج على قواعدها وأصولها بل تجعل التطورات متماشية مع تلك القواعد والأصول.

واللغة العربية قد نشأت في بلاد الحجاز ثم انتشرت في كثير من جوانبها ، وزاد من قوتها وانتشارها نزول القرآن الكريم بها . فكيف ولدت ؟ومتى .. ؟ وما أهم مراحل تطورها ؟ وما التحديات التي تواجهها في عصرنا الحالي؟

تساؤلات سنحاول الإجابة عنها في هذا البحث والذي قسمناها إلى مبحثين :

المبحث الأول : وخصصناه للبحث حول نشأة اللغة العربية وتطورها قديما . أما المبحث الثاني :  فقد خصصناه للبحث حول مساهمة القرآن في تطور اللغة العربية ومحطات تطورها منذ ظهور الإسلام حتى اليوم.

المبحث الأول : نشأة اللغة العربية وتطورها قبل الإسلام

اللغة العربية هي واحدة من اللغات السامية التي خرجت من أرضٍ واحدة ، وبما أن الساميون قد تكاثرت أعدادهم فقد خرجوا من مهدهم الأول فاختلفت لهجاتهم عن اللغة الأولى ، وزاد من هذ الاختلاف انقطاع الصلة وتأثير البيئة وتراخي الزمن حتى أصبحت كل لهجة لغةً مستقلةً .

والعلماء يقسمون اللغات السامية إلى الآرامية والكنعانية والعربية ، كما يقسمون اللغات الآرية إلى اللاتينية واليونانية والسنسكريتية .

فالآرامية أصل الكلدانية والآشورية والسريانية ، أما الكنعانية فهي مصدر العربية والفينيقية ، والعربية تشمل المضرية الفصحى ولهجات أهل اليمن والحبشة ، والراجح في الرأي أن العربية هي أقرب المصادر الثلاثة إلى اللغة الأم ، لأنها بانعزالها عن العالم سلمت مما أصاب غيرها من التطورات والتغيير[2] .

 

ألسنة العرب هل تشكلت منها اللغة الفصحى ؟

 

ألسنة العرب : تعبير أطلق قديما قصد به اختلاف ألسنة القبائل ، وتباينها في نطق بعض الألفاظ .ويدخل في هذا النوع الاختلاف في حركات الفتح والإمالة ، والإظهار والإدغام ، والتسهيل والتحقيق ، والتفخيم والترقيق . أو ما يعرف باختلاف اللهجات . حيث كان للعربية قبل الإسلام أكثر من مستوى وظيفي . فقد كانت هناك اللغة المشتركة ، وهي لغة الشعر والخطابة والحوار في دار الندوة ، والمفاخرات التي تُعقد في أسواق العرب ، وهناك لغات القبائل التي تتفاوت فصاحتها بمدى قربها من اللغة المشتركة والتي عُرفت بمسميات مختلفة تعبر عن سمات التغيّر الصوتي فيها ، ومن ذلك[3] :

-       تلتلة بهراء : وهي كسر حروف المضارعة ، مثلاً :الفعل  يَعلم ينطق يِعلم بكسر الياء .

-       الكشكشة والكسكسة : وتنسب إلى ربيعة ومضر وبكر ، وهي قلب الكاف المؤنثة شينا أو سينا كتابك ينطق كتابش أو كتابس .

-       شنشنة اليمن : وهي إبدال الكاف شيناً مطلقاً : في لبيك اللهم لبيك : لبيش اللهم لبيش .

-       طمطمانية حِمير : وهي قلب ال التعريف أم ، وبها يُرى الحديث الشريف ( ليس من البر الصيام في السفر) وينطق هكذا : ( ليس من امبر امصيام في امسفر )

-       عجعجة قضاعة : وهي قلب الياء المشددة جيماً فالعشيّ تنطق العشج .

-       استنطاء هذيل :وهي قلب العين نوناً بشرط مجاورتها للطاء . إنا أعطيناك ، تنطق : أنطيناك.

-       فحفة هذيل : وهي نطق حتى عتى : عتى حين .

وهذه اللغات كما أشرنا سابقا هي لغات خاصة بالقبائل بيمنا كانت اللغة المشتركة بينهم هي اللغة الفصحى لغة الشعر والأدب والندوات التي تغلبت على سائر اللغات لأسباب دينية واقتصادية واجتماعية ولعل من أهمها :

Ø    الأسواق : وكان العرب يقيمونها في أشهر السنة للبيع والتسوق ، وينتقلون من بعضها إلى بعض وهذا يجعلهم وفقا لطبيعة الاجتماع إلى المقارضة بالقول والمفاوضة في الرأي ، والمبارزة بالشعر ، والمباهاة بالفصاحة والمفاخرة بالمحامد وشرف الأنساب ، فساعد ذلك كله القبائل العربية على توحيد اللسان والعادات والتقاليد والأخلاق .فقد كان الشاعر أو الخطيب يحرص على انتقاء الألفاظ العامة والأساليب الشاعة في الأدب رغبة في إفهام سامعيه ، وطمعا في تكثير جمهوره حينئذ يقوم الرواة بتلقي تلك الأشعار أو الخطب ونشرها في الأنحاء ، فتنتشر معها اللغة فضلا عن الطريقة والفكرة . [4]وأشهر تلك الأسواق هو سوق عكاظ ( وهي قرية بين نخلة والطائف واتخذت سوقا سنة 540م ) ومجنة وذو المجاز ، وعكاظ هو أشهر و أقوى الأسواق أثراً في تهذيب اللغة العربية ، ولعل سر قوته يكمن في أنه كان يقام في بداية ذي القعدة ويستمر إلى العشرين منه ، فتفد إليه زعماء العرب وأمراء الشعر والأدب من كل فج عميق للمتاجرة ومفاداة الأسرى وأداء الحج.[5]

Ø   أثر مكة وعمل قريش في وحدة اللغة وتطورها :

في القرن السادس أصبحت مكة محطة التقاء القبائل العربية الآتية من الجنوب القادمة بأنواع السلع والتوابل من بلاد الهند حيث كان المكيون يبتاعونها ويصفونها في أسواق الشام ومصر وكانت قوافل مكة التجارية آمنة لحرمة البيت الحرام ومكانة قريش وزعامتهم في الحج ورياستهم في عكاظ ، و إيلافهم رحلة الشتاء إلى اليمن ورحلة الصيف إلى حوران فكانوا أشد الناس ارتباطاً بالقبائل وأكثرهم اختلاطاً بالشعوب العربية ، فضلا عن اختلاطهم بالحبشة في الجنوب وبالفرس في الشرق وبالروم في الشمال. فتهيأت لهم بذلك سبل ثقافة اللسان والفكر فسقلوا لغتهم وجعلوها من أفصح اللغات ، ثم أخذ الشعراء يثرونها وينشرونها، حتى نزل بها القرآن الكريم فأتم لها الذيوع والغلبة[6]. ويذهب علماء اللغة إلى أن لهجات غرب الجزيرة العربية ووسطها تقاربت حتى صارت في أصفى صورها عند قبائل نجد وبطون غطفان وتميم ، حتى أن آمنة بنت وهب أم النبي محمد صلى الله عليه وسلم اختارت أن تبعث به رضيعاً إلى منازل سعد بن بكر وهم من هوازن حتى تتعود أذنه النطق السليم [7].

ويقول ابن خلدون في المقدمة ( ... ولهذا كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية ، و أصرحها لبعدهم عن بلاد العجم من جميع اتجاهاتهم ، ثم مَن اكتنفهم من ثقيف وهُذيل وخُزاعة ، وبني كنانة وغطفان وبني أسد وبني تميم.

وأما من بَعُد عنهم من ربيعة ولخم وجُذام وغسان وإياد وقضاعة وعرب اليمن المجاورين لأمم فارس والروم والحبشة فلم تكن لغتهم تامة الملكة لمخاطتهم الأعاجم[8].)

وبهذا يتضح لنا أن قريش ومن جاورها من القبائل قد ساهمت في تكوين اللغة العربية الفصحى وتطورها وجعلها لغة عامة تغلبت على لهجات وألسن القبائل العربية ، وقد كان لعمل قريش في التجارة فضلاً عن موقعها البعيد عن الأعاجم وإقامتها للأسواق التي ساهمت هي أيضا في سقل الألفاظ العربية وتهذيبها وتصفيتها ونشرها .

المبحث الثاني : اللغة العربية من بعد ظهور الإسلام إلى العصر الحديث.

v   اللغة العربية بعد نزول القرآن الكريم

كان نزول القرآن الكريم بالعربية الفصحى أهم حدث في مراحل تطورها ؛ فقد وحد لهجاتها المختلفة في لغة فصيحة واحدة قائمة في الأساس على لهجة قريش ، وأضاف إلى معجمها ألفاظاً كثيرة وأعطى لألفاظ أخرى دلالات جديدة . كما ارتقى ببلاغة التراكيب العربية . وكان سبباً في نشأة علوم اللغة العربية كالنحو الصرف والأصوات وفقه اللغة والبلاغة ، فضلاً عن العلوم الشرعية ، ثم إنه حقق للعربية انتشاراً عالمياً .

وحملت اللغة الفصيحة القرآن الكريم ، واستطاعت من خلال انتشار الإسلام أن تبدأ زحفها جنوباً لتحل محل العربية الجنوبية القديمة ، ثم عبرت البحر الأحمر إلى شرق إفريقيا ، واتجهت شمالاً فقضت على الآرمية في فلسطين وسوريا والعراق، ثم زحفت غرباً فحلت محل القبطية في مصر ،وانتشرت في شمال إفريقيا فخلفت لهجات البربر ، وفتحت لها الطريق إلى غرب إفريقيا والسودان ، ومن شمال إفريقيا انتقلت إلى أسبانيا وجزر البحر المتوسط[9] .

v   ظهور علوم اللغة العربية وقواعدها .

عندما خطت اللغة العربية خطواتها الأولى نحو العالمية ، وانتشرت في الأمصار أصبحت حينها اللغة الرسمية للدولة وأصبح استخدامها دليلاً على الرُقي والمكانة الاجتماعية ، وظلت لغة البادية حتى نهاية القرن الثاني الهجري هي الحجة عند كل اختلاف ، أما سكان الأمصار الإسلامية فقد بدأت صلتهم بها تضعف شيئاً فشيئاً، وأخذ بعضم يتكلم عربية مولدة متأثرة بلغته الأم ، فكان هذا أحد أسباب التي جعلت العربية تدخل مجال التأليف العلمي في نهاية العصر الأموي بعد أن كان ثراؤها مقتصراً على شعر وأمثال على ألسنة الرواة[10].

أما بداياتُ النحوِ العربي فغامضةٌ بعضَ الشيءِ ولسنا في معرضِ ذكرِ الآراءِ المختلفةِ، والراجحُ أنَّ أبا الأسود الدؤليِّ أولُ من تكلمَ بالنحوِ، ولكن الثابتَ يقيناً أنَّ الانطلاقةَ الحقيقةَ للنحو العربي كانت على يد ابن أبي إسحاق الحضرمي (735) ثم تبِعهُ الخليل بن أحمد حتى جاء سيبويه وبدأ عصراً جديداً من الدرس النحوي قائماً على التدوينِ والتأليفِ فكان "الكتابُ" أولَ ما دوِّنَ من أصولِ النحو، ثم تعددت الآراءُ والمدارسُ في النحو والصرف خاصةً في العراقِ الذي عرفَ مدرستي الكوفة والبصرة، وما بينهما من منافسةٍ شديدة لم تقتصرِ على النحو فحسب بل شملتِ عموم علوم اللغة وعلم الكلام.

كما كان لصناعة المعاجمِ ،على أشكالها، أثرٌ بارزٌ على اللغة العربية وتنظيمها، ما جعلها قادرةً على احتواءِ الإرثِ الكبير المدوّنِ بالعربيةِ أو المترجمِ عن اللغاتِ الأخرى. ويجمعُ الباحثون على أن الخليل بن أحمد الفراهيدي هو أولُ من وضعَ مُعجماً في اللغة العربية، وهو «كتاب العينِ»، وقد رتّب َمادتهُ بحسب مخارجِ الحروف ابتداءً من حرف العين. وعلى خطا الخليل ظهرت معاجمٌ عربيةٌ كثيرة ومتنوعة في مادتِها وأسلوبها نذكرُ أشهَرها من معاجم الألفاظ: «الحروف» و«الجيم» للشيباني، و«الجمهرة» لابن دريد، و«المحيط» للصاحب بن عباد، و«الصحاح» للجوهري، و«القاموس المحيط» للفيروز أبادي، و«لسان العرب» لابن منظور. ومن معاجم المعاني: «فقه اللغة وسر العربية» لأبي منصور الثعالبي، و «المُخصَّص» لابن سيده.

وشهدَ العصرُ العباسي نهضةً ثقافيةً كُبرى تمثّلت بتعدد المدارس الفلسفية والكلامية إضافةً إلى التأليفِ والترجمةِ والنقل من اللغات الأخرى وهذا بدوره أدّى إلى إغناءِ اللغة العربية والارتقاء بأساليبها ومفرداتها من خلال استيعاب مفردات ومعاني جديدة.

v   عصور الانحطاط ...وعصر النهضة ، وهل أثرت النهضة العربية الحديثة في تطور اللغة العربية؟

من خلال السطور السابقة تبين لنا أن اللغة العربية قد شهدت تطورا كبيرا وحظيت باهتمام كبير نتج عنه تأليف الكتب وجمع المعاجم اللغوية وتعليم قواعد اللغة وآدابها.

فما إن نصل إلى عصرِ الدول المتتابعة ومن ثم فترةِ الحكم العثماني حتى تبدأ اللغة العربية حالةً أشبه بالجمود نتيجة الركود الثقافي والاجتماعي في تلك العصور فتراجعت مكانةُ اللغةِ العربية أمام سلطانِ اللغة التركية واللغات المحلية الأخرى.

واستمرت الحالُ على ما هي عليه حتى بدأت بوادرُ النهضةِ العربيةِ بالظهور في نهايات القرن التاسع عشر فشهِدت اللغة العربية انتعاشاً على يدِ المفكرين والمتنورين من أدباءِ النهضةِ ورجالاتِها، وكان لاستيقاظِ الشعورِ الوطني والقومي دورهُ في بعثِ اللغة العربية ثم جاءت الصحافة لتحررَ اللغةَ العربية مما علقَ بها من رواسبِ عصورٍ من الانحطاط والتخلف فعمل الكتّابُ على تجديد أساليبهم بما يتناسب وروحَ العصر ونشطت حركةُ التأليف لتؤكدَ على الحلّةِ الجديدة للغةِ العربيةِ.

ثم جاءت المجامعُ اللغوية تعزيزاً ودعماً للغة العربية ومساهمةً كبرى في حركةِ التعريب والترجمة فكان مَجمعُ اللغة العربية بدمشقَ أولُ هذه المجامع ظهوراً وقد أُنشئ أولاً في العهد الملكي عام 1919 تحت مسمى "المجمع العلمي العربي" وتولى رئاسته محمد كرد علي وكان من أشهر أعضائه أمين سويد وأنيس سلوم وسعيد الكرمي ومتري قندلفت وعيسى إسكندر معلوف وعبد القادر المغربي وعز الدين علم الدين وطاهر الجزائري. كان له دورٌ كبيرٌ في تعريبِ مؤسسات الدولة وهيئاتها وتعريب التعليم وإنشاء المدارس الأولى في سورية. وجمعَ الآثارِ القديمة، وجمع الكتبِ المخطوطةِ والمطبوعة وتوسّعَ عددُ أعضاء مجمع اللغة العربية بعد ذلك إلى عشرين عضواً عاملاً في سوريا. وتوالى على رئاسته الأساتذة: محمد كرد على (حتى 1953)، خليل مردم بك (حتى 1959)، مصطفى الشهابي (حتى 1968)، حسني سبح (حتى 1986)، وشاكر الفحام.

ثم كان تأسيسُ المَجمع في بيروت عام 1920 برئاسة عبد الله ميخائيل البستاني وكان من أعضائه إسكندر معلوف والشيخ مصطفى الغلاييني وبشارة الخوري ولكن المجمع أُلغي بداعي توفيرِ النفقاتِ[11].

وفي عام 1932 صدرَ مرسومٌ ملكيٌ في مصرَ يقضي بإنشاء مجمع اللغة العربية في القاهرة وضم عدداً من المختصين في اللغة العربية من العرب والمستشرقين.

أمّا المجمعُ العلميُ العراقيُ فتأسّسَ عام 1947 برئاسةِ محمد علي الشبيبي. ومن ثم اجتمعت المجامعُ اللغويةُ العربيةُ في اتحادٍ واحٍد تأسّس عام 1971 بهدفِ تنظيمِ عملِ المجامع والتنسيق فيما بينها والعملِ على توحيدِ المصطلحات العلمية والفنية والحضارية ونشرِها[12].

وتحتلُ اللغةُ العربية اليومَ المرتبةَ الخامسةَ من بين اللغاتِ واسعة الانتشار في العالمِ إذ ينطقُ بها ما يزيد على 350 مليون شخص حول العالم، وهذا ما دفعَ منظمةَ الأمم المتحدة إلى إعلانِ العربية لغةً رسميةً في الأمم المتحدة وأصبحت من لغات العملِ في مختلف الهيئات والمنظمات التابعة لها كما عيّنت يوم الثامن عشر من كانون الأول/ ديسمبر كل عام يوماً للاحتفالِ باللغةِ العربيةِ.

الخاتمة :

يتضح لنا مما سبق نشأة اللغة العربية وكيف تطورت من ألسنة العرب ومزجت بين ألفاظها وتكونت من ألفاظ نقية اعتمدت كلغة عامة للأدب والشعر في العصر الجاهلي، وهي لغة سامية شهدت تطورا كبيراً في مراحلها الداخلية ، وكان للقرآن الكريم فضل عظيم عليها حيث بسببه أصبحت هذه اللغة الفرع الوحيد من اللغات السامية الذي حافظ على توهجه وعالميته ، في حين اندثرت معظم اللغات السامية ، ما بقى منها عدا لغات محلية ذات نطاق ضيق مثل : العبرية والأمهرية ، واللغة العربية شهدت مراحل قوة ومراحل ضعف كان لسيطرة غير العرب على مقاليد الحكم أثراً كبيرا في إضعافها، إلا أنها ما لبثت أن عادت للحياة من جديد بفضل النهضة الثقافية العربية وقيام المجامع اللغوية وظهور حركة الإحياء والتأليف.

واللغة العربية يتكلم بها الآن قرابة 422 مليون نسمة كلغة أم ، كما يتحدث بها من المسلمين غير العرب قرابة العدد نفسه كلغة ثانية.

إلا أن اللغة العربية تواجه تحديات كثيرة من أبرزها عدم اهتمام أهلها بها وبدراستها وعدم إيمانهم بثرائها اللغوي .

قائمة المصادر والمراجع :

قائمة المصادر :

1.    القرآن الكريم .

2.    موسوعة الحديث النبوي الشريق ( الصحاح والسنن والمسانيد ) الإصدار الثاني ، انتاج موقع روح الإسلام

3.    بن جني ، أبو الفتح عثمان ، الخصائص ، ج 1 ، تحقيق محمد علي النجار ، المكتبة العلمية .

4.    ابن خلدون ، عبدالرحمن ، المقدمة ، المجلد الأول ط 2 ( دار الكتاب اللبناني ، بيروت ، 1979.

قائمة المراجع :

1)    الزيات ، أحمد حسن ، تاريخ الأدب العربي ، ط 24 ، ( دار المعرفة بيروت )

2)    حجازي ، محمود فهمي ، علم اللغة العربية ، المكتبة الشاملة ، نسخة الكترونية .

3)    الموسوعة العربية العالمية ، النسخة الألكترونية 2004 م



[1] الخصائص لابن جني المجلد الأول

[2] أحمد حسن الزيات ، تاريخ الأدب العربي ، ط 24، ( دار المعرفة بيروت ) ، ص 13

[3] الموسوعة العربية الشاملة 2004 م

[4] أحمد حسن الزيات ( بتصرف ) ، مرجع سابق

[5] الموسوعة الشاملة ، مرجع سابق .

[6] أحمد حسن الزيات ، مرجع سابق ص 15 ، 16، 17

[7] الموسوعة الشاملة ، مرجع سابق

[8] عبد الرحمن بن خلدون ، المقدمة ، المجلد الأول ، طـ2 ( دار الكتاب اللبناني ، بيروت 1979 ، ص 1072

[9] الموسوعة الشاملة ، مرجع سابق.

[10] الموسوعة العربية العالمية.

[11] إسرائيل ولينسفون : تاريخ اللغات السامية .

[12] سعيد الأفغاني : في أصول النحو 

الأساليب الخبرية والإنشائية


  الأسلوب الخبري :


وهو ما يحتمل الصدق والكذب ويستثنى من هذا :


    القرآن الكريم  -  الحديث  -  الحقائق العلمية


- الأسلوب الخبري أغراضه البلاغية كثيرة تأتي حسب المعنى


 الذي يوحي به سياق الكلام ، ومنها : (الاسترحام  -  إظهار


 التحسر  -  إظهار الضعف  -  الفخر  -  النصح  -  التهديد  - 


 التوبيخ  -  المدح ... إلخ ) 


و منها : 


1  -  الاسترحام، نحو: (إلهي عبدك العاصي أتاكا..).


2  -  إغراء المخاطب بشيء، نحو: (وليس سواء عالم وجهول).


3  -  إظهار الضعف والخشوع، كقوله تعالى : ( قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) (مريم: من الآية4) .


4  -  إظهار التحسر على شيء محبوب، كقوله تعالى :


 ( قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى ) (آل عمران: من الآية36)


5  -  إظهار الفرح، كقوله تعالى (جاء الحق..) .


6  -  التوبيخ، كقولك: (أنا أعلم فيم أنت!).


7  -  التحذير، نحو (أبغض الحلال الطلاق) .


8  -  الفخر، نحو: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) . 


9  -  المدح، نحو: (فإنك شمس والملوك كواكب..).


**********


  الأسلوب الإنشائي : 


وهو ما لا يحتمل الصدق أو الكذب وهو نوعان :


 -  طلبي: وهو الأمر والنهى والاستفهام والنداء والتمني.


 -  غير طلبي: وهو التعجب والقسم والمدح والذم.

  تذكر أن :


كل أغراض الأساليب الإنشائية تأتي حسب المعنى الذي


 يوحي به سياق الكلام ، وما يذكر هنا من أغراض على 


سبيل المثال لا الحصر .


1 -  الأمــر : 

هو طلب فعل الشيء على وجه الاستعلاء


(أي الآمر يعد نفسه أعلى من المخاطب ) .

و صيغ الأمر :


(أ ) -  الفعل الأمر مثل : " ربنا اغفر لنا ذنوبناً ".


(ب) -   المضارع المقرون بلام الأمر  مثل : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه".


(ج) -  المصدر النائب عن فعله مثل : " وبالوالدين إحسانا ".


(د)  -  اسم الفعل  مثل : " عليك بتقوى الله ".


  أغراضه البلاغية : 


تفهم من سياق الكلام وهي كثيرة مثل :


    [الدعاء  -  التهديد  -  النصح والإرشاد  -  التعجيز  -  الذم والتحقير  -  التحسر  -  التمني] و منها :


1 - الدعاء : إذا كان الأمر من البشر إلى الله .

  مثل : قول سيدنا موسى : (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) (طـه25 : 26).


2 - الرجاء : إذا كان الأمر من الأدنى إلى الأعلى من البشر .

  مثل : انظر إلى شعبك أيها الحاكم . 


3 - النصح والإرشاد : إذا كان الأمر من الأعلى إلى الأدنى من البشر ، أو كان فيه فائدة ستعود على المخاطب .

  مثل :


   اطلبوا الحكمة عند الحكماء . 

    (دع ما يؤلمك ).

   اِرْجِعْ إلَى النفْـسِ فاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَـا فأنْتَ بِـالنَّـفْـسِ لاَ بِالجِـسْـمِ إِنْسَـانُ


4 - الالتماس : إذا كان الأمر بين اثنين متساويين في المكانة .

  مثل : يا صاحبي تقصيا نظريكما .


5 - التعجيز : إذا كان الأمر يستحيل القيام به ؛ لأن المأمور يعجز أن ينفذ ما أمر به .

{مثل : (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِه) (لقمان: من الآية11).


 (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن


 مِثْلِهِ ) (البقرة: من الآية23).


6 - التمني :

 إذا كان الأمر موجهاً لما لا يعقل ، أو للمطالبة بشيء بعيد التحقق .


مثل : 

ألا أيها الليل الطويل ألا أنجلِ 

بصبح وما الإصباح منك بأمثل 

7 - التحسُّر و الندم : 

إذا كان الأمر يتضمن ما يحزن النفس و يؤلمها على شيء مضى و انتهى .


مثل : قال البارودي :


 رُدُّوا عَلَيَّ الصِّبَا مَنْ عَصْرِيَ الخَالِي  .


8  - التهديد و التحذير : 


إذا كان الكلام يتضمن ما يخيف و يرهب .


مثل : أهْمِلْ دروسك ، وسترى عاقبة ذلك .


*********


2- النهــي :

ويأتي على صورة واحدة وهى المضارع المسبوق بـ [لا] الناهية.

{و النهي الحقيقي هو طلب الكف من أعلى لأدنى .

{وقد تخرج صيغة النهي عن معناها الحقيقي إلى معانٍ أخرى بلاغية كالدعاء ، والالتماس ، والتمني ، والإرشاد ، والتوبيخ ، والتيئيس ، والتهديد ...


  تذكر أن :


الأغراض البلاغية لأسلوب النهي هي نفس الأغراض البلاغية للأمر 

1  -  الدعاء : 

(رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (البقرة: من الآية286) 


2  -  التهديد :

 قال الأبُ متوعداً ابنه : لا تُقْلِعْ عَنْ عِنَادِك !


3  -  التمني :

 لا تغربي يا شمس !


4  -  النصح والإرشاد : 

قال خالد بن صفوان:  (لا تطلبوا الحاجات في غير حينها، ولا تطلبوها من غير أهلها).


5  -  التيئيس : 

(لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) (التوبة: من الآية66).


6  -  التحسر والندم : (لا تأملي يا نفس في الدنيا ، فما فيها من وفاء ) .


3 -  الاستفهـام : 

الاستفهـام الحقيقي : هو طلب معرفة شيء مجهول ويحتاج إلى جواب .


الاستفهـام البلاغي : لا يتطلب جواباً و إنما يحمل من المشاعر أغراض بلاغية عديدة منها :


1  -


النفي : إذا حلت أداة النفي محل أداة الاستفهام و صح المعنى :

مثل : 

(هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُون) (الزمر: من الآية9) .


2  -  التقرير و التأكيد : إذا كان الاستفهام منفياً :


 مثل : ألم نشرح لك صدرك.


{ (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا) (الأعراف: من الآية172).


3  -  الإنكار : إذا كان الاستفهام عن شيء لا يصح أن يكون :

مثل : (أتلعب و أنت تأكل .) ،  (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ..) (البقرة:44) .


4  -  التمني : إذا إذا قدرت مكان أداة الاستفهام أداة التمني (ليت) ، واستقام المعنى .

مثل : ( فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا ) (الأعراف:53).


5  -  التشويق و الإغراء : إذا كان الكلام فيه ما يغري و يثير الانتباه . 

مثل : ( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (الصف: من الآية10).


4 -  النــداء : 

وأدواته هي : الهمزة و(أي)، وينادي بهما القريب، و(وا) و(أيا)، و(هيا) وينادى بها البعيد، و(يا) لنداء القريب والبعيد .

أغراض النداء البلاغية عديدة ومنها :


1  -  إظهار التحسُّر والحزن : 

{مثل :  قول الشاعر يرثي ابنته : يا درة نزعت من تاج والدها .


2  -  التعجب :

مثل : قال أبو العلاء المعري: فَوَاعَجَبًا كَمْ يَدِّعِي الفَضْلَ نَاقِصٌ


3  -  الاستبعاد : إذا كان المنادى بعيد المنال .

مثل : يا بلاداً حجبت منذ الأزل .


4  -  الاستغاثة : 

مثل : يا الله للمؤمنين . 


5  -  التعظيم : 

مثل : يا فتية الوطن المسلوب هل أمل على جباهكم السمراء يكتمل 


6  -  التنبيه : 

مثل : يا صاحبي تقصيا نظريكما .


5 -  التمنــي :

أداته الأصلية (ليت) وقد تستعمل في التمني أدوات أخرى هي (لو / هل / عسى).


{لو : تفيد إظهار التمني بعيد نادر الحدوث 

مثل : لو كان ذلك يشترى أو يرجع .


{هل ، لعل : لإظهار التمني قريب الحدوث .

مثل : لعل الكرب ينتهي . 


ليت : تفيد استحالة حدوث الشيء 

مثل : ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب.


 تذكر أن :

هناك أسلوب آخر هو : الأسلوب الخبري لفظاً الإنشائي معنى ، ودائماً يفيد : الدعاء


مثل : (جزاك الله خيراً).

أبوالطيب المتنبي شاعراً*

  الدكتور : عبدالعزيز المقالح 

لا يعتريني أدنى شك في أن عنوان هذه التأملات سوف يثير مجموعة من أسئلة القراء المتابعين للشعر، وأن أول أسئلتهم سيكون: وما الجديد في حديث كهذا؛ فالمتنبي ليس شاعراً فحسب، بل هو أهم شعراء العرب على الإطلاق؟ وأنا أتفق معهم وأقول لا خلاف على مكانة المتنبي، لكن ما كتبه من شعر يتوزع بين الحكمة والنظم والشعر، فالعنوان إذاً يحاول لفت انتباه القراء إلى أن هذا البحث الموجز، الذي يشير العنوان إلى محتواه سيتناول هذا الجانب الأخير، وهو الشعر الذي يعطي للمتني صفه الشاعر لا صفة الحكيم أو الناظم المنطقي. وآمل أن أكون في هذه الإشارة التمهيدية قد تمكنت من توضيح حقيقة العنوان ودلالته، التي بدت غامضة بعض الشيء، وإذا كان شعر هذا المستوى عند المتنبي قليلاً فإنه عند الشعراء الآخرين يبدو أقل من القليل.

ولا أنسى هنا الإشارة إلى أن ما دفعني إلى الاقتراب من هذا المنحى الشائك، هو تلك العبارة التي سادت في عصره وتواصل صداها إلى ما تلاه من عصور، وهي (أبو تمام والمتنبي حكيمان وإنما الشاعر البحتري)، وهي عبارة قطعية تسلب الشاعرين الكبيرين كل علاقة لهما بالشعر بمعناه الخاص والدقيق، ولا تعطي أدنى اهتمام لتلك اللوحات الشعرية البديعة التي تتخلل قصائدهما الطويلة وما تحمله من نبض الشعر / الشعر، ومنها على سبيل المثال تلك الأبيات التي جاءت في سياق الحديث عن البطولة والحرب في القصيد ة المشهورة لأبي تمام (السيف أصدق إنباء) والأبيات هي:

لقد تركت أمير المؤمنين بها

للنار يوماً ذليل الصخر والخشبِ

غادرت فيها بهيم الليل وهو ضحى

يشلّه وسطها صبح من اللهبِ

حتى كأن جلابيبَ الدُّجى رغبت

عن لونها، وكأن الشمس لم تغبِ

ضوء من النار والظلماء عاكفةٌ

وظلمةٌ من دخانٍ في ضحىً شَحِبِ 

هكذا إذاً، هو الشعر /الشعر/ أو الشعر / الماس المتناثر بين سطور القصائد الطويلة والقصيرة للشعراء الكبار. وهو عند المتنبي أظهر وأكثر، وسنبدأ معه من قصيدته (النونية) تلك التي استوحى مقدمتها من (شِعب بوّان) في بلاد فارس، وكيف سار به في مناخ من الدهشة والافتنان بالطبيعة في واحدة من صورها الأعذب والأجمل، وبما تعكسه من الأضواء والظلال، وما كان ذلك الشِعب أو الوادي الظليل ليستأثر بإعجابه لو لم يكن من القدرة الجمالية بمكان، ولما انعكس أثره في هذا التعبير الشعري الباذخ غير المسبوق في تاريخ الأدب العربي والشعر منه خاصة، حيث تتحول الصورة إلى لوحات فنية تضاهي ما يرسمه المصورون الكبار عن الحدائق والغابات:

مغاني الشِّعب طيباً في المغاني 

بمنزلةِ الربيع من الزمانِ

ولكن الفتى العربيَّ فيها 

غريب الوجه واليد واللسانِ

ملاعب جِنّةٍ لو سار فيها 

سليمانٌ لسار بترجمانِ

فسرتُ وقد حجبن الحر عني

وجئن من الضياء بما كفاني

وألقى الشرقُ منها في ثيابي 

دنانيراً تفرّ من البنانِ

لها ثمر تشير إليك منه

بأشربةٍ وَقَفن بلا أوانِ

وأمواه ٌ تصلّ بها حصاها 

صليلَ الحلي في أيدي الغواني

في هذا المقطع، يبدو المتنبي فناناً تشكيلياً يرسم لوحاته الشعرية، أو بالأصح مجموعة لوحات متعددة الألوان، بكلمات تأسر المشهد الطبيعي لتتناقله الأجيال عبر العصور، وفيه نصغي إلى موسيقا المياه وإلى النسمات التي تحرك أوراق الشجر بحنان، وهذا هو الشعر الذي يتداخل بين الصامت والناطق والضوء بالظلال، وهنا يشعر القارئ المتمرس بقراءة الشعر وإدراك مستوياته اللونية والصوتية، بأن المتنبي كان وهو يكتب هذا المقطع في أقصى درجات العفوية بعيداً عن التصنع والكد الذهني، وكأنه يلتقط صوره ومعانيه من فضاء المكان، فكانت تأتي إليه سهلة دون جهد يبذل أو عناء، وهي حالة لا يدركها إلاَّ الكبار من الشعراء الذين تتملكهم طاقة تعبيرية تتجاوز الوعي إلى اللّا وعي، والواقع إلى ما هو أبعد من الخيال.

ومما تناقله النقاد عن ابن رشد، اختياره لأربعة أبيات من قصيدتين لاميتين، بوصفها أجمل ما كتب المتنبي من شعر، والأبيات المختارة تؤكد بوضوح فهم هذا المفكر والفيلسوف للشعر، وأن نقده العالي يثبت اتساع دائرة وعيه الأدبي والمعرفي، والبيتان الأولان هما من قصيدة كان المتنبي يتحدث فيها عن رسول ملك الروم إلى سيف الدولة، وكيف كانت حيرته وهو يبارح أرضه، التي كانت لاتزال تعاني غبار المعارك وآثار الدماء التي سالت فيها، والحديث موجهٌ إلى سيف الدولة:

وأنَّى اهتدى هذا الرسول بأرضه 

وما سَكَنت مذ سِرت فيها القساطلُ

ومن أيّ ماءٍ كان يسقي جياده

ولم تصفُ من مزج الدماء المناهلُ

أما البيتان الآخران فهما من قصيدة لامية أخرى، يمدح بها المتنبي ابن رائق المتقي وهو أحد خلفاء العباسيين المعاصرين له، والبيتان من المقدمة الغزلية وهما:

لَبــِسن الَوشْيَ لا متجملاتٍ 

ولكن كي يَصُنَّ به الجمالا

وضفّرن الغدائرَ لا لحسنٍ 

ولكن خِفن في الشَّعر الضلالا

وفي القصيدة التي اختار ابن رشد منها هذين البيتين، أبيات أخرى تستحق الوقوف عندها، ومنها هذا البيت:

على قلقٍ كأن الريح تحتي 

أوجهها جنوباً أو شمالا

كثيرة هي الأبيات الشعرية التي تناثرت بين سطور قصائد المتنبي وأحياناً في مداخلها، ومنها هذه الأبيات التي جاءت في مدخل إحدى قصائده، ذات الإيقاع الموسيقي الفاتن: 

وكيف التذاذي بالأصائل والضحى 

إذا لم يعد ذاك النسيم الذي هبَّا

ذكرت به وصلاً كأن لم أفز به

وعيشاً كأني كنت أقطعه وثبا

وفتّانة العينين قتالة الهوى

إذا نفحت شيخاً روائحُها شبّا

وربما يكون المتنبي هو الشاعر العربي الوحيد الذي تلين له اللغة، ومثلها القوافي، فتبدو للقارئ وكأنها معدّة سلفاً، أو بعبارة أخرى كأنه لا يكتبها بل يجدها مكتوبة جاهزة، ليتلقاها دون بحث أو عناء، وهي حالة تستدعي دراسة مستقلة.

ونتوقف هنا قليلاً عند لاميته المرفوعة، التي تقطر عذوبةً وتنساب في الأفواه انسياب الجداول في الحقول الظمأى، وفي هذه القصيدة الرائعة يوجد البيت الشعري العظيم، الذي جمع بين الشعر عندما يكون في أبهى تجلياته، وبين الحكمة دائمة الحضور في كثير من الحالات، التي يجد الإنسان نفسه واقفاً بين خصومه، ومن يفترض أنهم أصدقاؤه.

وسوى الروم خلف ظهرك روم

فعلى أي جانبيك تميل

ونتوقف قليلاً عند المقطع المشار إليه، وهو يتوسط القصيدة ويحتل منها مقام القلب في هذه القصيدة، ويبدأ بالسؤال الذاهل المذهل: 

نحن أدرى وقد سألنا بنجدٍ

أَطَويلٌ طريقنا أم يطولُ

وكثيرٌ من السؤال اشتياقٌ 

وكثيرٌ من رده تعليلُ

لا أقمنا على مكانٍ وإن طاب 

ولا يمكن المكان الرحيلُ

كلما رحبت بنا الروض قلنا 

حَلَبٌ قصدنا وأنت السبيلُ

وفي الأخير تجدر الإشارة إلى أن هذا الشاعر العظيم فريدٌ في شخصيته، وفريدٌ في حياته، وفريدٌ في قصائده الموحية، التي اتسعت للمديح وللتعبير عن الذات، كما اتسعت للحكمة ووصف الطبيعة وللشعر في أرقى مستوياته وأعمقها، تمثّلاً لمعنى الشعرية في توصيفها القديم والمعاصر.

* نُشر في مجلة الشارقة الثقافية

ماذا قال الشعراء عن كورونا ؟!... مواقف طريفة وممتعة

كورونا الفيروس المرعب الذي ارهب العالم وجعله سجنا كبيرا ، بالاضافة إلى فتكه بحياة عشرات الآلاف من البشر وإصابته لما يقارب مليون شخص 
هذا الكائن المرعب شكل هاجسا لدى الكثير من الناس ومنهم الشعراء حيث كان ترك أثراً كبيراً في شعرهم 
فمن هؤلاء الشعراء من وقف موقفا ثوريا ضده واعتبره عدوا للحب فرفض تلك التحذيرات التي تدعو إلى ترك التقبيل. واللمس والجلوس بقرب المحبوب 
ومنهم الشاعر جبر بعداني " شاعر يمني " حيث قال 

‏‎‎ومفيرسون إلى النخاع ألّا ترى

كمّامتي ومعقّمي الملعونا؟!

أدري ولٰكنّي جُبلتُ على الهوى
فتقبّليني عاشقاً مجنوناً

أوليس أزكى أن يقال قتلتِني
من أن يقال ضحيّة الكورونا؟!

هي ضمّة لا غير أبرأ بعدها 
فلقد ألِفتُ عناقك المأمونا

وإذا انكسرتُ فلا يهمّ لأنّني
مازلتُ أحفظ شعركِ الموزونا

ومن هؤلاء الشعراء من أظهر موقفا متعقلا ودعا إلى نسيان الأشواق والحنين والاهتمام بشاغل العصر " كورونا " وتلك هي الشاعرة الأردنية " تالا الخطيب " 
 حيث قالت : 

‏لا وقت للأشواق قالت جدتي
الكلُّ منشغلٌ بما  شـغلونا

فانس الحنين ولا تفكر بالهوى 
واغسل يديك وحضّر الكمّونا

ستعودُ  أيام الجمال لحيّنـا 
وتعودُ ترعى ليلنا (الدّلـعونـا)

كما أن و شاعرتنا تالا تحسست من قول الكثير أن فيروس كورونا سببه كبار السن فقالت بلسان حالهم : 

‏أعاني من زماني ما أعاني
 وأتعبني المشيب وقد غزاني

وهل نابُ المنونِ يخيف كهلا 
يناجي الرب بالسبع المثاني 

لكم شكري وتقديري وحزنٌ
كفاكم قسوةً.... موتًا  كفاني 0‎‎

ويعود الشاعر جبر بعداني فيصف حواراً بينه وببن زوجته في الحجر المنزلي وهي تقوم بطبه كل ما لذ وطاب من الأطعمة بعد أن كان يشتاق لأطباقها الشهية فلا يجدها نظرا لانشغاله بالعمل خارج المنزل فيشكر كرونا الذي جعله يتمتع بهذه الأطباق الرائعة


فيقول : 
‏تفضّلْ  حبيبي إنّ أكلكَ جاهزٌ
ومن كلّ شَيْءٍ قد طبختُ صحونا

ولَم أدر ما تفسير صمتي للحظةٍ؟!
كأنّي بأعضائي خُلقن عيونا

خلوتُ إلى نفسي أحاول فهمها
لأسمعَ همساً دافئاً و حنونا

يقول  أدام الله نعمةَ وصلنا
فقلتُ أطال الله عُمر َ ( كـرونا )


شاعر آخر هو عبدالخالق الزهراني " شاعر خليجي" 
فقد اعتبر الدعوة إلى نظافة الأجساد وتعقيم الاماكن وغسل اليدين اعتبرها فرصة للدعوة إلى تطهير القلوب والعيش بحب فقال : 

‏عقِّمْ فؤادك قبل كفِّكَ إنّما 
يُنجيكَ طُهرُ القلبِ من نيرانِ
سِرُّ السلامةِ مضغةٌ بصدورنا 
و محَلُّ نظرةِ ربِّنا الرّحمنِ
كلُّ الشعائرِ لو فطنتَ توجّهتْ
للقلبِ تغسلُهُ من الأدرانِ


ثم يعود جبر بعداني فيذكر الجانب الإيجابي لفيروس كورونا في حياته حيث جعله يهنأ بالراحة من مشاورير العائلة والزوجة بالذات فيخاطبها قائلا : 

‏حتّى المشاوير قد صارتْ معلّقةً
فلتلزمي الدار عصر السبت والأحدِ

و وفّري كلّ ما كنّا سننفقهُ
على الثياب ليومٍ بالغ النكدِ

فإن شعرتِ بضيقٍ فالصلاة كما
جرّبتُها خير من يقضي على الكمدِ

أو اطْبخي أيّ شيء لم نذقه معاً
إشتقتُ جدّاً إلى طبْخاتِكِ الجُددِ


ثم يصف أنه قرر الابتعاد عن التقبيل بسبب كورونا فقال : 

‏ألم تقلْ ذات شعرٍ قُبلتي سوَرٌ
تُتلى ورشفة ريقي رقية الحسدِ ؟!

وإن كفّي التي زارتْكَ ذات هوىً
قد غسّلتْكَ بماء الثلج والبردِ ؟!

فقلتُ قبل كرونا كنتُ ذَا عوجٍ
والآن بعد كرونا عدتُ للرشدِ

شعراً بشعرٍ سنقضيها فلا تدعي
شيطانك الوغد يروي سيرة الجسدِ

‏قالتْ:كرونا؛ فقلتُ المنصف الأبدي
قَالَتْ تفشّى فقلتُ اسْتبعدي بلدي

قَالَتْ:سنفنى فقلتُ الله يرحمنا
قَالَتْ:جميعاً؛فقلتُ الخُلد للصمدِ

قَالَت وما الحل؟!قلتُ استعصمي أبداً 
بحبل ربّ البرايا الواحد الأحدِ

قَالت فديتُكَ قد طمْأنْتني ومضتْ
إلى عناقي ولٰكنّي رفعتُ يدي



‏إلى هنا وكفى ؛ عودي مدلّلتي 
معَ (الكرونا) تضيق الأمّ بالولدِ

سحقاً لهذا الهوى إن كان يحملنا 
نحو المشافي ويبلينا بكلّ ردّي 

"ردّي عليّ فؤادي" إنّني رجلٌ
كرهتُ نفسي لفرط الهمّ فابتعدي

فلستُ أرجو من الفتوى التي وردتْ
على لسانيَ إِلَّا أجرَ مجتهدِ !



لكن الشاعر جبر بعداني والذي دعا إلى الابتعاد عن التقبيل في زمن كورونا يعود فيدعو الشاعر فواز اللعبون " شاعر سعودي " 
يدعوه إلى عدم الإصغاء لما يقال من ترك القبل الأحضان مع الاحباب وبالأخص رشف الشفاة الجميلة فيقول : 

‏(فواز)  ليس الذي قد قيل يعنينا
قَبّلْ متى شئتَ إنّ الله حامينا 

مجنونةٌ من ترى في حضن عاشقها
عدوى وفي الحبّ ما يُشفي المحبّينا 

في ريق فاتنةٍ طابتْ مراشفها 
سرّ الدواء فقل للوصل آمينا

وإن يقال أصبنا بالجنون هوىً
فقد خُلقنا مجانيناً مجانينا
‎@Badanigabr
 وهو في الابيات السابقة يرد على الشاعر الدكتور فواز اللعبون الذي دعا إلى هجر حضن الحبيب ويشكو من أن نفسه تمنت احتضان محبوبه ولكنه تراجع خوفا من المرض 
فقال : 

‏‎أصبح الحضن سقاماً ومرض
بعد أن كان غراماً يُفترض

رحتُ من أجل عناقٍ واحدٍ
عند من صار حبيبي فرفض

فمددت الكف أرجو كفهُ
فاعتراه الخوف مني وركض

فارتضيت العزل قبل الملتقى
عله الهجر قريباً يُنتقض

هنا يمكننا القول بأننا من خلال رحلتنا مع الأبيات السابقة ندرك دور الشعر والادب التفاعل مع الأحداث باعتبار الشعر هو متنفس الإنسانية والمعبر عما يدور في خلدها من تناقضات، فمنهم من رفض الإجراءات الوقائية من كورونا ومنهم من اعتبرها مغالاة ومنهم من تعقل وخضع لها  والتزم بها وهذا هو الإجراء الصحيح والصائب حتى وإن كان له اثر وجداني ونفسي قاسٍ إلا أننا مرغمون على الالتزام به حيث لا خيار آخر سواه 

نسأل الله أن يعين البشرية على القضاء على عدوها المرعب ويبعده عنا وعن كل من نحب 

الإنسان يتحدى لكي يعيش د . عبدالعزيز المقالح

الإنسان يتحدى لكي يعيش
د . عبدالعزيز المقالح 

يذكرني حال الإنسان في مواجهته للمصاعب والعوائق بالأشجار تتساقط أوراقها وتجف أغصانها لكي تعود من جديد وقد أورقت واستقامت أغصانها، ولولا تلك الحالة التي تعرفها الأشجار من
 التجدد
والمقاومة لكانت قد اندثرت وتوقف نموّها من أول يوم يعتريها الذبول، ونستطيع من خلال المشاهدة العادية لهذه الأمثلة الواقعية أن نتبين أن التغيير ومقاومة التجمد سُنّة من سُنن الحياة، وسبيل إلى أن تظل الحياة -كما أسلفت- في حالة تجدد وتغيير. وتوحى الملاحظات السالفة بما يمتلكه الإنسان من طاقات وما تقتضيه حالُهُ من تحول دائم لا ثبات فيه ولا قرار،  ومثال الأشجار ليس سوى دليل واقعي من شأنه أن يثبت هذه الحقيقة التي لا تحتمل الشك ولا الريب.

وكلما زادت التحديات التي نواجهها، زادت قدرتنا على المقاومة والتجدد، والشعوب التي ارتقت لم يكن لها ذلك لرغبتها في ذلك فقط، وإنما لأنها امتلكت من طاقات التجديد ما جعلها تصل إلى ذلك المستوى. وليس أمام شعوبنا للخروج من أزمات التخلف والفقر سوى التصميم على التحدي، وإلاَّ فإنها ستبقى على ما هي عليه، وسبق لي -في هذه الأحاديث– أن أشرت إلى أن خلاصنا الاقتصادي والاجتماعي متوقف على ما نمتلكه من طاقة التحدي والرغبة الفاعلة في الخروج من دائرة الضعف، وما يرافقه من تراجع على أكثر من مستوى. 





ولا عيب إذا اقتدينا بالشعوب المتقدمة وحاولنا التدرج في تحدينا لما فرضته علينا الظروف القاهرة من استسلام وقبول بما لا يمكن الاستسلام له أو تقبله، وإذا كانت النفوس كباراً –كما قال الشاعر- تعبت في مرادها الأجسامُ؛ فمعنى ذلك باختصار أن كل شأن من شؤون الحياة لا يأتي سهلاً ولا يكون صدى لرغبة مؤقتة، وكل حالة من حالاتنا تقتضي جهداً وتستدعي حالة من التحفز والشعور العميق بالانطلاق. وإذا لم تكن الاستجابة كاملة لمثل هذا، فإننا –كما سبقت الملاحظة  أكثر من مرة- سنظل ندور في دائرة من الجمود والتراخي، ولن يتغير شيء مما بنا. هكذا تؤكد حقائق الحياة التي نمر بها وتمر بنا، ولا مفر للإنسان إن أراد أن يتقدم، أن يداوم على الحركة ويستمر في تحدي كل المعوقات التي تقف في طريقه، وأن لا يتوقف، ويواصل التغيير وإلاَّ سوف يبقى كما هو في تراجع مستمر، وتلك سنة الحياة: تُحرك المتحرك وتُجمد المتجمد.


والأفراد كالشعوب تماماً في الانصياع لسنة الحياة ومعوقاتها الداعية إلى الحركة ونبذ  الجمود، وكم من شعبٍ كانت حاله أسوأ من حالنا أدرك سنة الحياة وما تقتضيه من  حركة، فصار في المقدمة بعد أن كان في المؤخرة؛ ونحن نأمل أن نكون كذلك، تتقدم خطواتنا نحو الإمام ولا تتعثر بنا الخطوات كما تعثرت بنا في ماضينا وفي حاضرنا. ومن المؤكد، وقد أدركنا أسباب ضعفنا وتأخرنا، أن نكون قادرين على مواصلة السير إلى أن نتمكن من الخروج مما نحن فيه. وربما تكررت بعض العبارات في هذه الحديث أكثر مما يجب، ولكن طبيعة الظرف الذي نمر به، وحاجتنا إلى التغيير السريع، تقتضي مثل هذا التكرار، وأعود مرة ثانية فأذكر بيت الشعر الذي استعرضته سابقاً وهو لأبي الطيب المتنبي: 
"وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسامُ"، 
فالتعب هنا هو الجهد المطلوب لمن أراد أن يتقدم ويقاوم ما يعانيه من ركود، ولا شيء يساعدنا على تجاوز هذه المتاعب مثل الاستمرار في التحدي ومواصلة السير على الطريق الذي أردناه ليقودنا إلى حيث نريد في أقل قدر من الوقت وأقل قدر من العناء، فلا شيء يأتي مجاناً وبلا مقابل. هكذا تقول سنة الحياة وطبيعة الأيام.
يذكرني حال الإنسان في مواجهته للمصاعب والعوائق بالأشجار تتساقط أوراقها وتجف أغصانها لكي تعود من جديد وقد أورقت واستقامت أغصانها، ولولا تلك الحالة التي تعرفها الأشجار من التجدد والمقاومة لكانت قد اندثرت وتوقف نموّها من أول يوم يعتريها الذبول، ونستطيع من خلال المشاهدة العادية لهذه الأمثلة الواقعية أن نتبين أن التغيير ومقاومة التجمد سُنّة من سُنن الحياة، وسبيل إلى أن تظل الحياة -كما أسلفت- في حالة تجدد وتغيير. وتوحى الملاحظات السالفة بما يمتلكه الإنسان من طاقات وما تقتضيه حالُهُ من تحول دائم لا ثبات فيه ولا قرار،  ومثال الأشجار ليس سوى دليل واقعي من شأنه أن يثبت هذه الحقيقة التي لا تحتمل الشك ولا الريب.
وكلما زادت التحديات التي نواجهها، زادت قدرتنا على المقاومة والتجدد، والشعوب التي ارتقت لم يكن لها ذلك لرغبتها في ذلك فقط، وإنما لأنها امتلكت من طاقات التجديد ما جعلها تصل إلى ذلك المستوى. وليس أمام شعوبنا للخروج من أزمات التخلف والفقر سوى التصميم على التحدي، وإلاَّ فإنها ستبقى على ما هي عليه، وسبق لي -في هذه الأحاديث– أن أشرت إلى أن خلاصنا الاقتصادي والاجتماعي متوقف على ما نمتلكه من طاقة التحدي والرغبة الفاعلة في الخروج من دائرة الضعف، وما يرافقه من تراجع على أكثر من مستوى. 
ولا عيب إذا اقتدينا بالشعوب المتقدمة وحاولنا التدرج في تحدينا لما فرضته علينا الظروف القاهرة من استسلام وقبول بما لا يمكن الاستسلام له أو تقبله، وإذا كانت النفوس كباراً –كما قال الشاعر- تعبت في مرادها الأجسامُ؛ فمعنى ذلك باختصار أن كل شأن من شؤون الحياة لا يأتي سهلاً ولا يكون صدى لرغبة مؤقتة، وكل حالة من حالاتنا تقتضي جهداً وتستدعي حالة من التحفز والشعور العميق بالانطلاق. وإذا لم تكن الاستجابة كاملة لمثل هذا، فإننا –كما سبقت الملاحظة  أكثر من مرة- سنظل ندور في دائرة من الجمود والتراخي، ولن يتغير شيء مما بنا. هكذا تؤكد حقائق الحياة التي نمر بها وتمر بنا، ولا مفر للإنسان إن أراد أن يتقدم، أن يداوم على الحركة ويستمر في تحدي كل المعوقات التي تقف في طريقه، وأن لا يتوقف، ويواصل التغيير وإلاَّ سوف يبقى كما هو في تراجع مستمر، وتلك سنة الحياة: تُحرك المتحرك وتُجمد المتجمد.


والأفراد كالشعوب تماماً في الانصياع لسنة الحياة ومعوقاتها الداعية إلى الحركة ونبذ  الجمود، وكم من شعبٍ كانت حاله أسوأ من حالنا أدرك سنة الحياة وما تقتضيه من  حركة، فصار في المقدمة بعد أن كان في المؤخرة؛ ونحن نأمل أن نكون كذلك، تتقدم خطواتنا نحو الإمام ولا تتعثر بنا الخطوات كما تعثرت بنا في ماضينا وفي حاضرنا. ومن المؤكد، وقد أدركنا أسباب ضعفنا وتأخرنا، أن نكون قادرين على مواصلة السير إلى أن نتمكن من الخروج مما نحن فيه. وربما تكررت بعض العبارات في هذه الحديث أكثر مما يجب، ولكن طبيعة الظرف الذي نمر به، وحاجتنا إلى التغيير السريع، تقتضي مثل هذا التكرار، وأعود مرة ثانية فأذكر بيت الشعر الذي استعرضته سابقاً وهو لأبي الطيب المتنبي: 
"وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسامُ"، 
فالتعب هنا هو الجهد المطلوب لمن أراد أن يتقدم ويقاوم ما يعانيه من ركود، ولا شيء يساعدنا على تجاوز هذه المتاعب مثل الاستمرار في التحدي ومواصلة السير على الطريق الذي أردناه ليقودنا إلى حيث نريد في أقل قدر من الوقت وأقل قدر من العناء، فلا شيء يأتي مجاناً وبلا مقابل. هكذا تقول سنة الحياة وطبيعة الأيام.

الثلاثة الاذكياء .. ردود مسكتة


‌‌‎

من يجيد استخدام اللغة العربية ويمتلك مهارة تطويعها لصالح الفكرة التي يريد إيصالها إلى المتلقي يُسمى بليغا وهذه المهارات بحاجة إلى مستوى عالٍ من الذكاء والفراسة 
 





يقول أحد الأدباء أن الرجل البليغ قادر على تطويع اللغة في صالحه فهو إن أراد مدح الزهرة قال: وردة، وإن أراد تحقيرها قال: عشبة!

وإن أراد مدح اليرقة الطائرة قال: فراشة، 
وإن أراد تحقيرها قال: حشرة!

وقال شاعر قديم في مدح العسل وذمه:
تقول: هذا مُجَاجُ النحلِ تمدحُهُ
وإن تَذُمَّ فقل قيءُ الزنابيرِ

وفي هذه التدوينة أنقل لكم بعضاً من إجابات ذكية وبليغة اشتهرت في كتب الأدب وتناقلها الأدباء ووصوفها بالمدهشة والمسكتة 

١. الموظف المتقاعد 

يحكى أن متقاعدا سُئل عن كيفية قضاء وقته في بيته بعد تقاعده؟
فقال: حاليا أقوم بعمل معالجات مائية حرارية للمعادن والزجاج في بيئة مقيدة.
*طريقة وصف المتقاعد لعمله توحي بأنه مهندس يُجري تجارب معقدة في مختبره الخاص، والواقع أنه يقوم بغسل المواعين تحت رقابة زوجته المتسلطة تبا لها.


‌‎٢. قصة الحجاج والمرأة الخارجية

قيل : أتى الحجاج بامرأة من الخوارج ، فقال لأصحابة : ما تقولون فيها؟ قالوا : عاجلها بالقتل أيها الأمير . فقالت المرأة : لقد كان وزراء صاحبك خير من وزرائك يا حجاج .
قال الحجاج : ومن هو صاحبي؟ قالت : فرعون استشارهم في موسى فقالوا : أرجه وأخاه . 

٣. زوجة الفقير 

من طريف ما يروى في هذا السياق أن زوجة سُئلت عن عمل زوجها، فقالت:
هو القائم المفوَّض بجمع صدقات المسلمين.
طريقة وصف الزوجة لعمل زوجها توحي بأنه على مرتبة وزير، والواقع أن زوجها رجل مسكين يسأل الناس، ويعيش على صدقاتهم، والزوجة لم تكذب، لكنها وظفت براعتها اللغوية لتحسين عمل زوجها.