المشاكلة في البلاغة العربية

 المشاكلة في البلاغة  كبديع معنوي


المشاكلة في اللغة : المشابهة والمماثلة


وفي الاصطلاح : ذكرُ الشيء بلفظٍ غيرِه لوقوعه في صُحبته ..

أمثلة :

قول عمرو بن كلثوم :

ألا لا يَجهَلَنْ أحدٌ علينا * فنجهلَ فوقَ جهلِ الجاهلينا


حيث سمّى تأديب الجاهل على جهله جهلاً من باب المشاكلة ، مع أنّ التأديب والعقاب ليسا من الجهل .. والمراد من الجهل هنا السّفَهُ والغضب المنافي للحُلم وما ينتج عنه من أعمال غير حميدة ..


وقول ابن الرّقعمق :

قالوا : اقْتَرِحْ شيئاً لكَ طَبْخَهُ * قلتُ : اطبُخوا لي جُبَّةً وقميصاً


حيث طلب طبخ جبّة وقميصٍ على سبيل المشاكلة ، لطلبهم أن يطبخوا له شيئاً يأكله ، ودلّ بهذا على أنّه بحاجة إلى ما يلبَسه ..


ومن الأمثلة القرآنية التي جاءت على المشاكلة ، قوله تعالى : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) [البقرة: 194] .. فإنّ مقابلة الاعتداء بمثله لا يُسمّى في الأصل اعتداءً ، ولكن سوّغ هذا الإطلاق داعي المشاكلة ، وليعطي اللفظ معنى المماثلة في تطبيق العقوبة دون زيادة ، لأنّ معنى كلمة (اعتدى) في الأصل تجاوز حدود الحقّ ، ومن العدل أن يُقابَل التجاوز بتجاوز مماثل له ..


ومن المشاكلة البديعة قول الرسول صلى الله عليه وسلم : "أُمرتُ أن أبشّر خديجة ببيتٍ في الجنّة مِنْ قَصَبٍ لا صَخَبَ فيهِ ولا نَصَب" (السلسة الصحيحة) ..

شرح المفردات :

قصب : بفتح القاف والصاد يعني : قصب اللؤلؤ ..

‏لا صخب فيه :‏ أي لا اضطراب ولا ضجّة ولا صياح ..

ولا نصب : ‏أي لا يكون لها ثمّ تشاغل يشغلها عن لذائذ الجنّة ولا تعب ينغصها ..


ففي هذا الحديث الشريف مشاكلة بديعة ومطابقة بين الجزاء في الآخرة المترتّب على العمل الصالح في الدنيا ، حيث يكون الجزاء من جنس العمل .. 

التوضيح : قال الرسول عليه الصلاة والسلام "ببيت" ، ولم يقل : بقصر ، ولذلك معنى لائق بصورة الحال ، وهو أنّ أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها كانت أوّل من بنى بيتاً في الإسلام ، ولم يكن على ظهر الأرض بيت إسلام إلا بيتها .. ولذلك ذُكر جزاء الفعل بلفظ الفعل .. 


ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم : "مَن كسا مسلماً على عُرى ، كساه الله من حلل الجنّة ، ومَن سقا مسلماً على ظمأ ، سقاه الله من الرحيق" .. وقوله أيضاً : "مَن بنى لله مسجداً بنى الله له مثله في الجنّة" .. حيث لم يرد مثله في كونه مسجداً ، ولا في صفته ، ولكن قابل البنيان بالبنيان ، كما بنى يُبنى له ، كما قابل الكسوة بالكسوة ، والسقيا بالسقيا ، فهاهنا وقعت المماثلة ، لا في ذات المبنيِّ أو المكسو .. وإذا ثبت هذا ، فمن هاهنا اقتضت الفصاحة أنْ يعبّر عمّا بُشّرَت به السيدة خديجة رضي الله عنها بلفظ البيت ، وإنْ كان فيه ما لا عين رأته ، ولا أذن سمعته ، ولا خطر على قلب بشر .. 


‏أمّا قوله صلى الله عليه وسلم : "لا صخب فيه ولا نصب" ، فإنّه أيضاً من باب ما كُنّا بسبيله ، لأنّه عليه الصلاة والسلام دعاها إلى الإيمان فأجابته عفواً ، ولم تحوجه إلى أنْ يصخب كما يصخب البعل إذا تعصّت عليه حليلته ، ولا أنْ ينصب ، بل أزالت عنه كلّ نصب ، وآنسته من كلّ وحشة ، وهوّنت عليه كلّ مكروه ، وأراحته بمالها من كلّ كدٍّ ونصب ، فوصف منزلها الذي بُشِّرَت به بالصفة المقابلة لفعالها وصورته .. 


وأما استخدام كلمة (قصب) في وصف البيت دون غيرها من الأوصاف ، كاللؤلؤ مثلاً ، فمراعاة للمشاكلة في نيلها قصب السّبق إلى الإيمان دون غيرها من الرجال والنسوان ، والعرب تسمّي السابق محرزاً ، قال الشاعر :


مشى ابن الزبير القهقرى وتقدّمت *** أميّة حتى أحرزوا القصبات


وذكر ابن حجر - رحمه الله - في القصب مناسبة أخرى ، وذلك من جهة استواء أكثر أنابيبه ، فكان لخديجة رضي الله عنها من الاستواء ما ليس لغيرها ، إذ كانت حريصة على رضاه صلى الله عليه وسلم بكلّ ممكن ، ولم يصدر منها ما يغضبه كما وقع لغيرها .. 

وهكذا وقعت المشاكلة في جميع ألفظ الحديث الشريف ..


و المشاكلة نوعان:

النوع الأول مشاكلة تحقيقية : وهي التي يقع فيها اللفظ على غير ما هو له مع وجود قرينة لفظية تمنع اللبس تتمثل في:

أ-معمول اللفظ الذي تمت به المشاكلة، مثل:

- قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه ** قلت اطبخوا لي جبة وقميصا

حيث أقام "اطبخوا لي" مقام "خياطة الثوب" بقرينة المعمول "جبة وقميصا"

ب- العامل، مثل:

- "تعلم ما نفسي ولا أعلم ما في نفسك"

حيث أقام "ما نفسك" مقام "ما عندك أو ما في علمك" بقرينة العامل "تعلم، ولا أعلم" .

ملحوظة: العلماء يعتبرون مثل هذا تأويل حيث أنه لله نفس و لكن ليست كنفس المخاليق.

- "وجزاء سيئة سيئة مثلها"

حيث أقام "سيئة" الثانية مقام "عقوبة"

 اذا فلابد في المشاكلة التحقيقية تواجد قرينة لفظية اي كلمة تمنع اللبس

2- المشاكلة التقديرية

وهي التي يقع فيها اللفظ على ما هو له لكننا نقدره بلفظ آخر للمشاكلة مع وجود قرينة حالية تمنع اللبس، مثل:

-إن الولاية لا تدوم لواحد *** إن كنت تنكره فأين الأول

واغرس من الفعل الجميل غرائسا * فإذا عزلت فإنها لا تعزل

حيث أقام "اغرس" مقام "افعل أو اصنع" بقرينة حالية هي قيام الأمير المخاطب بغرس غرس حول المسجد.

-"صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ"

حيث أقام "صبغة الله / الصبغ" مقام "تطهير الله بالإيمان/ التطهير" ليشاكل صبغ النصارى الذين يغمسون أولادهم في ماء أصفر يقال له: المعمودية تطهيرا لهم، والقرينة حالية هي سبب نزول الآيات 136 – 138 من سورة البقرة.

** اذا ففي المشاكلة التقديرية لا يوجد قرينة لفظية و لكننا نقدر هذا اللفظ

مثل قوله تعالي (أفأمنوا مكر الله) فهنا لا يوجد لفظ آخر يدل علي المشاكلة و لكننا نقدر أنها مشاكلة باعتبار الحال و هو حال أنهم مكروا في البداية فجاءت عقوبة الله مشاكلة لفعلهم.

(ما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون معطوفة على جملة )

ولا تعرف للمشركين صلاة فتسمية مكائهم وتصديتهم صلاة مشاكلة تقديرية لأنهم لما صدوا المسلمين عن الصلاة وقراءة القرآن في المسجد الحرام عند البيت ، كان من جملة طرائق صدهم إياهم تشغيبهم عليهم وسخريتهم بهم يحاكون قراءة المسلمين وصلاتهم بالمكاء والتصدية ، قال مجاهد : فعل ذلك نفر من بني عبد الدار يخلطون على محمد صلاته ، وبنو عبد الدار هم سدنة الكعبة وأهل عمارة المسجد الحرام ، فلما فعلوا ذلك للاستسخار من الصلاة سمي فعلهم ذلك صلاة على طريقة المشاكلة التقديرية ، والمشاكلة ترجع إلى استعارة علاقتها المشاكلة اللفظية أو التقديرية ، فلم تكن للمشركين صلاة بالمكاء والتصدية ، وهذا الذي نحاه حذاق المفسرين : مجاهد ، وابن جبير ، وقتادة ، ويؤيد هذا قوله " فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " لأن شأن التفريع أن يكون جزاء على العمل المحكي قبله ، والمكاء والتصدية لا يعدان كفرا إلا إذا كانا صادرين للسخرية بالنبيء - صلى الله عليه وسلم - وبالدين ، وأما لو أريد مجرد لهو عملوه في المسجد الحرام فليس بمقتض كونه كفرا إلا على تأويله بأثر من آثار الكفر كقوله - تعالى - إنما النسي زيادة في الكفر .

ومن المفسرين من ذكر أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت عراة ويمكون ويصفقون . روي عن ابن عباس كانت قريش يطوفون بالبيت عراة يصفقون ويصفرون وعليه فإطلاق الصلاة على المكاء والتصدية مجاز مرسل ، قال طلحة بن عمرو : أراني سعيد بن جبير المكان الذي كانوا يمكون فيه نحو أبي قبيس ، فإذا صح الذي قاله طلحة بن عمرو هذا فالعندية في قوله " عند البيت " بمعنى مطلق المقاربة وليست على حقيقة ما يفيده " عند " من شدة القرب .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ما " المها" ؟ وماذا قال الشعراء عن جمال عينيها

لما رأيت الناس شدو رحالهم إلى بحرك الطامي أتيت بجرتي

اللام في اللغة العربية ....وأكثر من عشرة أوجه للإعراب والدلالة